IMLebanon

حاملُ قضيّة ومُدْمِنُ بَحْث

مؤلّفاتُه أطاريح قضايا، يغوصُ في التاريخ، يرودُ شِعابَهُ، يُحَلِّلُ الحَدث والظاهرة، يستقرئ ويستنتج، يصوغ من المادّة شكلاً تقولُه تكويناً! في كتابه: «استهدافُ أهلِ السُنّة»، بعنوانِه الاقتحاميّ، ومضمونه الاستراتيجي، يتصدّى المؤلّف الدكتور نبيل خليفة لإشكاليّة مزمنة، في أبعادها المتجدّدة، مع تراكُم استحقاقاتها، جيلاً بعد جيل، تتربَّصُ في مجتمعاتنا، كمثل «الخلايا النائمة» في الجسد، تُعالَجُ كلّما صَحَتْ، فتترَسَّبُ، ثم تعود لتصحوَ من جديد!

الدكتور نبيل خليفة، باحث مكتمل رصين، يحتلُّ مكانة راجحة في منتدى كتّابِ العصر، ويشكِّلُ مرجعيّة أكاديميّة ثابتة. يستقي المعلومات من مظانِّها، يستلُّ خيوطَها بمنهجيّة دقيقة، لينسُجَ رؤية موثّقة، يؤطِّرُها حِسّ وطنيّ أصيل، ويُحصِّـنُها فكر إنسانيّ منفتح.

مرّة جديدة، متأمّلاً في مُجرياتِ وطنِه وعالمِه، يسجِّلُ الحركة ويستشفّ المضمون. يقرأ علامات الزمان، يردُّها الى محاورها، في براغماتية العِلّة والمعلول، ومُقاربَة المفهوم للمدلول، ما قد نسمّيه «البحثَ التطابقيّ»، بين المَشهد والنصّ.

أفتحُ مزدوجين، لأستعيرَ عنوانَ كتاب لأحد زملائه في التعليم الجامعي، سَميِّه الدكتور نبيل أيوب، عن «القارئ المختلف»، لأقول: إنّ الدكتور نبيل خليفة، «كاتبٌ مختلف».

ملتزمٌ، حتى التورُّط والاستعداء، حامل قضيّة، مدمن بحثٍ عن الحقيقة، استنباطاً ذاتياً وكشفاً غيريّاً، لا تخيُّلاً أو خُيلاء. يُبدي ولا يُخفي، يجاهر ولا يساير.

إنّ الصراع المتفجّر اليوم، بين السنّة والشيعة، حالٌ قائمة ومستعادة، منذ البَيْعة الأولى، في «سَقيفةِ بني ساعدة»، فجُرحُها لا يَبرأ، ولَئنْ خُيِّلَ أنّه اندمل، لا يلبثُ حتى ينزف، فيهبُّ العقلاء لتداركه، بالتي هي أحسن… أو أسوأ!

هذا الواقع الدامي، يطرح سؤالاً مُلحّاً عن جدوى تأبيد المواجهة العبثيّة المدمّرة، في مشرقٍ عربيّ مُثخَن بجراحِه، وعلى امتدادِ عالم يَتَشَهَّدُ بالعربيّة ولا يقرأها!

في مهبِّ تطوّرات مأسوية، مذابح شعوب وانهيار حضارات، تداعي أنظمةٍ وسقوط دول، يُشكِّلُ كتابُ نبيل خليفة، بصفحاتِه الماية وثمان وثمانين، اختراقاً نوعيّاً للتفسير الرائج، بأنّ المسألة هي مجرّدُ تصفية حسابات مذهبيّة قديمة، بذهنيّةٍ سلفيّة طاغية، أو أنّها مطالبة بحقِّ ولاية، وتزاحمٌ على خلافة، من دون شورى، عارضاً الأسبابَ الفعليّة، ومقدّماً البراهينَ الحسيّة، انطلاقاً من ثقافة الجيوبوليتيك، وعلم الاستراتيجية، اللذين باتا طَوْعَ رؤيته، مثبتاً أنّ المُزمنَ يُموّهُ الآنيَّ، وأنّ الرِدَّة ظاهرةٌ موسميّة، في لعبة مصالحَ مستمرّةٍ مع الخليقة.

بعيداً من خوضُ جدليّة فِقهيّة – لاهوتية، في الناسخ والمنسوخ، بينَ نصوص يُصِرُّ كلُّ فريق على تأويلها وَفْقَ هواه، مُبرِزاً أسانيدَ من التنزيل والسُنّة، الكتابُ واحدٌ والسيرةُ ذاتُها، كما الصحيحان إيّاهُما… فالمطلوبُ توحيدُ القراءة، تخطّي الفِرقَة، والعبورُ الى الحداثة… ولا بأسَ اذا استوحينا قولَ بولس، رسول الأمم: «إنّ الحرف يقتل، لكنّ الروح يحيي»!

لقد جاء كتاب نبيل خليفة، بتوقيته ومحتواه، تَبصيراً بالأخطار المصيرية، وتأكيداً أنّ التخلُّفَ ليس قدراً، والقتلَ ليس عبادة، والآخرَ ليس عَدوّاً أبدياً، وأنّ «الأكرم» هو «الأتقى والأنفع»؛ منبّهاً الى حالِ التربُّص الكارثيّ، التي يقفُ العالمُ على شفيرها، يواجهُ أقسى تحديات المصير، داعياً الغافلين الى الصَحوة، وإحياء المضمون الحضاريّ لعَلاقات الدول، وردّ القدسيّة الى الحياة، انطلاقاً من مسلّمات لا يُنكرُها أيُّ دين !

إنّ تصنيفَ البشر والتمييزَ بينهم، عِرقاً، طبقةً ومعتقداً، هو إنكارٌ لجوهر جميع الأديان التوحيديّة، وكفرٌ بنعمة الحياة التي وهبَها الله جميعَ بني آدم، بل هي تجديفٌ صارخ وإزراءٌ بمبدع الأكوان.

فعلى من يدّعي الإيمان أنْ يَشهَدَ لإيمانِه بالعمل، يقبلَ الآخرَ المختلف، «أخاً في الدين أو نظيراً في الخَلق». الدكتور نبيل، فتح مِلفّاً شائكاً، أشبَعْهُ تمحيصاً واستخلص عِبَراً. شرَّع آفاقاً لوعي وخلاص… فيعنينا اليوم، أنْ نُضيءَ الزاوية التي نحنُ فيها، أن نُصَدِّقَ ادعاءَنا الرسالة، فنؤديَها، حضوراً رسولياً في الشرق، شهادةً لإيمانٍ ثابت بالإله الحيِّ القيّوم، والتزامِ المُثُلِ العليا.

إنّ المكتبة اللبنانية العربية مدينةٌ لكَ بهذه الإطلالةِ المميّزة، التي تُحدِثُ فرقاً، في التصدّي لخطر شامل يُهدِّدُ كيانات المشرق، وينذرُ بالمزيد من النَكَبات لشعوبه، ما لم تؤمنْ وتثبتْ أنّ الحرية هي حِلْيَةُ الإنسان، وأنّ العقل ميزتُه، وأنّ الحياة عطيّةُ الخالق الذي لا يحتاج الى جلاوزة وجزّارين، لإنفاذِ قضائه، فَـلَهُ وحده الدينونة!

ليسَ التخلّفُ قَدَراً، بل مسؤولية، وليس التقدّمُ معجزةً، بل إنجاز، يبدأ بتحرير العقل من الظلاميّة، والعيش في وَضْح النهار، مواكبة التقدّم والارتقاء مع العصر، بإبداعات الأدمغة الرؤيوية الملهمة. يقيناً أنّ الكون الفسيح يَتَّسِعُ لكلّ خَلْقِ الله، يعيشونَ في سلام، ويضيقُ بالإخوة، إذا تباغَضوا، تحاسَدوا، أَعماهُم الحقد، حكمتهم الكراهية واستبدّ بهم الغضب، فاحتَربوا وهدموا عوالمهم على رؤوسِهم جميعاً!