IMLebanon

جوسلين خويري وتصويب الرواية

 

لا نذكر فعلاً أن مقاتلاً سابقاً في “الحرب الأهلية” اللبنانية حظي بمثل التقدير الذي حازته جوسلين خويري. أدّى دوراً استثنائياً في ذلك كونها امرأة انخرطت في القتال وتحملت مسؤوليات قاسية تتعلق بأرواح رفاق وأعداء، لكن ما صارته جوسلين بعد الحرب هو الذي وسَّع المعاني وشكَّل الهالة والمثال.

 

كان يمكن للانتصار على الهجوم الذي أنجزته الفتاة الشجاعة في “الأسواق” ان يكون محل افتخار حزبها او بيئتها فحسب، لكنه بفعل مسيرتها اللاحقة اندمج بقيم الارادة والبذل وحق الدفاع عن القناعات وكيان لبنان، مثلما صار معها تعبير “المقاومة المسيحية” الطائفي أو “المقاومة اللبنانية” الفئوي فاقداً معاني التنازع الأهلي ليدخل في أدبيات السلم كجزء من تاريخ لا يرغب ورثة هذه المقاومات في استعادة أحداثه على الاطلاق.

 

فَعلَت جوسلين خويري في وفاتها ما عجزت عنه عقود طويلة تلت الحرب. فبرفعها قتال فريقها الى مستوى أخلاقي استثنائي، أعادت تصويب سردية الحرب اللبنانية التي طغى عليها خطاب اسلاموي عروبوي غذَّته ماكينة يسارية فاعلة ورسَّخه الاحتلال السوري، ليتشكل وعي أجيال عدة انطلاقاً من روايات للحرب منقوصة او منحازة. وكأنّها بذلك تضيف مشهداً الى ما رسمه زياد الدويري في فيلمه “قضية رقم 23″، حيث يورد بواقعية شديدة “أحداث الدامور” لتبيان ان المسيحيين كانوا أيضاً ضحية في تلك الحرب، ولم يكونوا جلادين إلا بقدر الآخرين وبما اقتضته “موجبات” أي حرب أهلية هي، تعريفاً، غوصٌ في الدم والقتل المتبادل والدمار والأحقاد.

 

بحركتها الصاخبة على مدى عقودها الثلاثة الأخيرة في اتجاه التقارب وتبادل المغفرة وإحلال المحبة محل البغضاء، توازياً مع تمسّكها بواجب الدفاع عن الدولة والوطن حين تحفُّ بهما الأخطار، إلتقت جوسلين خويري مع سِيَر بطولات مقابلة وقراءات ومراجعات نقدية جدية، وخصوصاً مع الصمت المهيب الذي مارسه الراحل محسن ابراهيم بعد نقده القاسي لخطأ الحركة اليسارية اللبنانية في الانخراط الحربي ضدّ فريق من اللبنانيين، وتحميلها لبنان أكثر ممّا يستطيع إزاء قضية فلسطين. كلاهما قاتل ذوداً عن قضية استهان فكرة الاستشهاد في سبيلها وكلاهما اكتشف انّ السلم ضرورة وأن لا عزاء إلا بالدولة والمصلحة الوطنية والوفاق.

 

تكمن فرادة جوسلين بين أهل الحرب “التائبين” في عدم انجرارها الى انهزامية وعُقَد ذنب المعتذرين رغم ايمانها الديني المسيحي العميق، وعدم انجذابها الى انتهازية وتبعية “مسيحيي الأسد وصدام” في قيادة حزبها بالتحديد حين كان مخطوفاً، والمستمرتين في “ذمية” الملتحقين بالمحور الايراني والسلاح غير الشرعي منذ “ثورة الأرز” والاستقلال الثاني.

 

رغم موتها الطبيعي انضمت جوسلين امس الى ذكرى كل شهداء حروب لبنان وضحاياه. عطرُ سيرتها في نُبل قتالها ثم إيمانها الصارخ بأن أسمى هدف للمواطن الشهم ليس إلا “السلام”.