IMLebanon

القرش الأبيض… الوداع “الأبدي”!

 

الانهيار النفسي “توأم” الانهيار الاقتصادي

 

يُفنّد هرم ماسلو حاجات الانسان الاساسيّة (Maslow’s hierarchy of needs) بشكل هرميّ

الطمأنينة في زمن القلق… مُحالة. كيف لا والمال بمفهومه المادي هو العنصر الأبرز لابتياع راحة البال أو للتسبب بحالة هستيريا؟! بدون راحة البال والأمان ينهار الكيان الإنساني ويصبح كذاك الغصن الهشّ الذي تلويه عاصفة هوجاء قبل أن تقتلعه من جذوره. أمّا الهستيريا، فعلاقتها وثيقة بحالات القلق المتقدّمة التي قد تتخطّى المعقول إن تعلّقت بفقدان القرش الأبيض الذي كان مُخصصاً لليوم الأسود…

يُفنّد هرم ماسلو حاجات الانسان (Maslow’s hierarchy of needs) بشكل هرميّ. ويتكون هذا الهرم من: الاحتياجات الفيزيولوجية، احتياجات الأمان، الاحتياجات الاجتماعية، الحاجة للتقدير والحاجة لتحقيق الذات. وفق هرم ماسلو، فإنه بعد إشباع الحاجات الفيزيولوجية، تظهر الحاجة إلى الأمان التي تشمل: السلامة الجسدية من العنف والاعتداء، الأمن الوظيفي، أمن الإيرادات والموارد، الأمن المعنوي والنفسي، الأمن الأسري، الأمن الصحي وأخيراً أمن الممتلكات الشخصية. انطلاقاً من نظرية العالم أبراهام ماسلو، يبدو أنّ سلسلة “الأمن” قد فُقدت نتيجة شدّتنا الماليّة. فمصيبتنا النقدية الهيكلية باتت قاصمة، أصبح النّاس من مختلف الطّبقات والانتماءات والتوجّهات يواجهون صدمة التأقلم مع واقعٍ جديد. واقع غيّر الثوابت ونسف القواعد التي كانوا قد رتّبوا حياتهم على أساسها بدءاً من الراتب الذي يتقاضونه والحساب المصرفي الذي راكموه، وصولاً الى حساب الاعتماد الذي اقتنوه، أي باختصار، “القرش الأبيض” الذي “طار”. ومع صفعة مدوية بهذا الحجم، أدرك الجميع أن هذه الحقائق تغيّرت بشكلٍ جذريّ، ربّما الى غير رجعة وهو ما يبرّر في نهاية المطاف لا بل يُدير، ردود فعلهم وسلوكيّاتهم أو حتى هواجسهم النفسيّة التي قد تُلامس حدود المرض.

 

أزمة قاصمة

 

بعد انحسار القدرة الشرائيّة، واندثار الطبقة الوسطى، وانعصار نسب النمو، وترافق كل ذلك باقتطاع الرواتب وتحوّل الاقتصاد الى منكوب، ازدادت حالات الاكتئاب مع كلّ ما يترافق معها من عقد وهواجس وكلّ ما ينجم عنها من انعكاسات نفسيّة وحتّى جسديّة.

 

واذا كان انخفاض نسبة جباية الضرائب وتدهور تمويل قطاع الإنتاج هما السببان الرئيسيان للأزمة الاقتصادية في العام 1929، فلا شك أن أزمتنا هذه ناجمة عن نظام طائفي مختلّ اعتاد منذ ما بعد الطائف ان يشجّع الهدر والفساد، فرسّخ بذلك المحاصصة. رتّب هذا النموذج الفاشل ديوناً عالية وقطاعاً مصرفياً متضخّماً، وهو ما أدّى اليوم الى أزمة في ثلاث أزمات: الازمة الأولى هي الفجوة في ميزان المدفوعات، أما الثانية فتتمثّل بالمالية العامة فيما الازمة الثالثة هي تلك المتعلقة بالنظام المصرفي، والتي بسببها تغيّرت حالة الغالبية الساحقة من اللبنانيين النفسية ومن خلالها العقلية والعاطفية وانحدرت نحو المجهول.

 

تخيّلوا أن تكونوا قادرين على إدارة أموالكم بحرّية وبطريقة تمكّنكم من تحقيق الأمن المالي المرجوّ، وفجأة تفقدون السيطرة تماماً على القوت اليومي أو جنى العمر، عندها تصبح حالة الذعر أمراً واقعاً، مع هاجس “الوداع الأبدي” لكل مقوّمات “الأمان المالي”.

 

إكتئاب جماعي

 

عن الموضوع يرى الطبيب والمحلل النفسي الدكتور شوقي عازوري أنّه “لا يمكن وصف ما يصيب الشعب اللبناني بسبب القيود التي فرضتها المصارف بالهستيريا الجماعيّة. فالهستيريا الجماعية هي السلوك المضطرب الذي تنتقل عدواه الى المجتمع ككل. لكنّ ما يحصل في الحقيقة يجسّد شعوراً بالاكتئاب والانهيار النفسي. وتجدر الاشارة الى أنّ الانهيار هذا غير ناجم عن مرض نفسي، بل إنّه نتيجة طبيعية للوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الراهن والذي لا يبدو أن له حلولاً جذرية في المدى المنظور”.

 

ويضيف: “إذا استمرّت الأوضاع على ما هي عليه، فستتفاقم حالة الاكتئاب وتزداد السوداوية، وسيفقد الناس الأمل أكثر فأكثر. وفي المرحلة الاخيرة من التدهور النفسي سنشهد المزيد من حالات الانتحار. لا يمكن للطب النفسي التعامل مع حالات الانهيار هذه لانها ليست جميعها امراضاً نفسية، والدليل على ذلك حالات الانتحار التي تسبّبت بها الاوضاع الاقتصادية والمعيشية”.

 

من جهتها توضح المعالجة النفسية كارن إيليّا في اتصال مع “نداء الوطن” أنّ “علاقة الفرد بالمال علاقة خاصة وشخصيّة وهي أيضاً نسبيّة. تبدأ هذه العلاقة في مراحل مبكّرة من حياة الإنسان، ثمّ تتطوّر وتختلف من شخص إلى آخر: فبالنسبة الى البعض، المال مكوّن أساسي في حياتهم، فإذا خسروه خسروا معه كلّ شيء وفقدوا أيضاً الأمان والاستقرار والسلطة التي كانوا يذخرون بها. أما بالنسبة الى البعض الآخر، فالمال ليس سوى وسيلة وهو بالتالي ليس أمراً يجب التعلّق به”.

 

وتتابع: “يعاني المجتمع اللبناني ككلّ اليوم من أزمة نفسيّة. لا يمكن وصف هذه الحالة بالهستيريا الجماعية، بل إنها حالة قلق ترخي بثقلها على المجتمع ككل ولكن بنسب متفاوتة، انطلاقاً من الاختبار الخاص لكلّ شخص وعلاقته بالمال وحاجته اليه ليس فقط كمفهوم مادي بل وأيضاً كمفهوم نظري”.

 

وتلفت إلى أنه “لا بدّ من التطرّق، لدى الحديث عن القلق الجماعي، الى مسألة الشائعات والتي يمتلك الانسان ميلاً الى تصديقها، خصوصاً إن كانت أخباراً سلبية مترافقة مع أوضاع مأزومة. تزيد هذه الشائعات حالة الذعر الجماعية وتفاقمها. وتعتبر هذه الحالة مفتعلة وخارجة عن سيطرتنا لا سيّما بعد فقداننا السيطرة على أموالنا ومدّخراتنا وأصبحت نقاط القوّة التي كنّا نمتلك بأيدي آخرين. هنال فرق بين القلق والاكتئاب. قد تترافق الحالتان في بعض الحالات الا أنهما يمكن ألا تكونا متلازمتين. وفي حال تفاقمت حالة القلق ببعض أشكالها يمكن أن تتحوّل الى حالة من الوسواس، الذي بدوره قد يتطوّر ليشكّل حالة مرضيّة كعندما يصبح الشخص مهووساً بماله ومذعوراً من فقدانه، ما يؤدي الى اضطرابات جسديّة وفقدان في الوزن…الخ”.

 

أما في ما يتعلّق بحالات الانتحار فتُشدّد على أن “ميل بعض الاشخاص الى الانتحار ليس مرتبطاً بتدابير المصارف. فالذي يمتلك نزعة للانتحار يتوجب أن يعاني من حالة اكتئاب متقدمة توقظ تلك النزعة الدفينة للانتحار. وهناك مؤشرات وعوارض تظهر على الاشخاص الذين يعانون من هذه النزعة. في المقابل، يعاني عدد آخر من المنتحرين من حالة هستيريّة تدفع بهم إلى التّلويح بالانتحار من دون أن تكون النيّة الفعليّة لذلك موجودة. ولكنّ هؤلاء يستخدمون هذا الأسلوب الهستيري كوسيلة ضغط لتحقيق مطالبهم، إلا أنه وللأسف في كثير من الاحيان تنجح محاولتهم في إنهاء حياتهم. وهنا لا بدّ من تناول حالة الهستيريا الجماعية وهي حالة نفسية تفتقر الى القواعد والى السيطرة في آن واحد، وهي إلى ذلك نوع من أنواع الفوضى النفسية. وعليه، ليس ما يعاني منه المجتمع اللبناني هستيريا جماعية ولكنه تمرّد نفسي على واقع مرفوض”.

 

الهوس… و”الهستيريا”

 

بدوره يعتبر المعالج الايحائي والاختصاصي في إدارة المشاعر ربيع الحوراني أنّ “الموضوع النفسي الناجم عن الأزمة الاقتصادية غير واضح حتى الساعة، لكن الاكيد أن حالات اليأس والقلق التي تؤدي الى الاكتئاب تتزايد. هناك أيضاً بعض حالات الهوس التي قد تلامس الهستيريا بمعناها الأدبي. إن تكدّس العوامل يحتّم ضرورة اللجوء الى المساعدة لتجنّب حالات الانهيار النفسي. صحيح أن الطرقات النفسيّة التي يتبعها كل شخص قد تختلف، لكنّ المهم في هذه الحالة تجنّب الانهيار من خلال الاقتناع بأن الواقع يرخي بأعبائه على كل اللبنانيين من دون استثناء ولو بنسب متفاوتة”.

 

أزمتنا هذه… كتلك الأنواع من البكتيريا التي باتت مقاومة للمضادات الحيوية. وكما أنّ الفيروسات التي تصيب جسماً ما، تبقى دفينة فيه لحين ظهور “محرّك” ما يعود ويُفعّلها، كذلك هي الامراض الاقتصادية التي لم نعد ندرك متى أو كيف تتّخذ طابعاً أكثر “جهنّميّة”، فهي التي ربّما تكون أمرضت الطبقى الوسطى… ولكنّ عوارضها النفسية على الجياع والمكتئبين والتي لم تظهر بعد… وخيمة. أما الهستيريا في بُعدها الهزلي وبكل ما تحمله من جنون فقط تكون ملجأنا لنحيا في بلاد فاسدة وفاشلة.