IMLebanon

إضطُّهِدوا وهُجِّروا… فأتاهم المُخلِّص

عيد الميلاد عند الطائفة الأرمنية له طابع خاص، فتلك الطائفة التي تأبى إلّا أن تتمسّك بالجذور المسيحية لا تزال تحتفل بالميلاد في 6 كانون الثاني، كيف لا وأرمينيا أوّل بلد في العالم اعتمد المسيحية ديناً للدولة عام 301، كيف لا والأرمن عاشوا دربَ جلجلة طويل وهم أكثر مَن يحق لهم الفرح بالأعياد بعد المجازر والإبادة التي تعرّضوا لها من السلطنة العثمانية أيام الحرب العالمية الأولى.

بين طفلٍ يركض في أحد أزقة برج حمود سائلاً والدته لماذا «بابا نويل» زار رفاقي في المدرسة منذ أسبوعين ولم يأتِ إلينا، وبين جدّه بخشيك الذي يتكّئ على عكازه مصرّاً على جمع العائلة الكبيرة ليلة الميلاد، مؤكداً التمسك بالمسيحية، تختزل برج حمود وجوارها مسيرة شعب ناضل بعد التهجير وبنى نفسه بنفسه محافظاً على لغته وعاداته وتقاليده لكي تبقى أجراس العيد تقرع في كلّ مناسبة.

ارتدت برج حمود ثياب العيد، فهي كانت من أولى المناطق التي تزيّنت للمناسبة وتحضّرت لاستقبال طفل المغارة، ويوم أمس كانت الحركة لافتة، فيما كانت المنازل تعج بدفء العيد والأمهات منكبات على تحضير العشاء، والأمر نفسه انسحب على المناطق التي يسكنها الأرمن، في حين كان بقية المسيحيين يحيون ليلة الغطاس.

هذا بالنسبة الى وضع الناس، أما تجارياً فبعبارة «السوق ميّت»، يستقبل تجار برج حمود أيّ سائلٍ عن وضع السوق في الأعياد، فهم ورغم أملهم بالحياة، فإنها خذلتهم في السنوات الأخيرة: محالهم التي كانت تعج بالمتسوّقين حتى في الأيام العادية باتت مقصداً للمتفرّجين فقط، «الوضع متل هالإيام، الشراية صارت صعبة…» يجيب أحد المارّة في الشارع.

محالٌ كبيرة تمتلئ بالموظفين: أحدهم ينظّف، الآخر يحضّر القهوة، فيما يتبادل آخرون الأحاديث، لكن نادراً ما يمّر أحد المتسوّقين الذين يكتفون بغالبيتهم بالنظر الى البضائع. أما في المحال الصغيرة فغالباً ما يكون التلفزيون صديق صاحب المحل الوحيد، «الوضع ما بيسمحلنا نوظّف»، تكتفي إحدى صاحبات المحال بالإجابة.

يجمع التجار الأرمنيون على أنّ الأزمة السورية أرخت بثقلها على أسواق برج حمود، فيؤكد أحدهم أنه عمل في مجال التجارة لـ40 سنة، «لكنّني لم أرَ مثل السنوات الخمس الأخيرة»، ويضيف: «بدأنا بالتخفيضات قبل العيد، علماً أنّ هذا الأمر غير مسموح في البلدان المتحضّرة، لكن الذي يستطيع شراء حذاء بـ20 ألفاً من محال النازحين، لن يشتريه من هنا بـ100 ألف ولو كان مصنَّعاً من الجلد».

على الطريق العام، محلٌ تقف صاحبته على الباب، تنفخ سيجارتها تارة، وتتبادل الأحاديث مع جارها في اللغة الأرمنية تارة أخرى، لترمق بين الحين والآخر المارة بنظراتها، وتعود لحديثها وكأنها فقدت الأمل من المتسوّقين.

نقف أمام الواجهة فتبادر بالسؤال: «كيف بساعدكم؟»، وبعدما سألناها عن وضع الأسواق، أطلقت العنان لضحكة طويلة مجيبة باختصار: «الوضع زفت». وأضافت: «لم نشعر بطعم العيد والدولة غائبة عنا، فنحن مواطنون كغيرنا إلّا أنّ أحداً لا ينظر إلينا، عشنا الحرب في السابق وعايشنا مآسي كثيرة لكننا لم نقبل مساعدات من أحد لأنّ اللبناني أكبر من ذلك، أما اليوم فكلّ المساعدات هي للنازحين».

تصمت قليلاً وتضيف: «الجنرال عون قال إنه بيّ الكل، نحنا مش جزء من هالكل؟»

بين الوضع الاقتصادي الذي يأمل كلّ لبناني أن يتحسّن وبين الأمل بالعهد الجديد، يبقى الخوف في قلب كلّ أرمني حفِظ تاريخ الإبادة وتهجيرَه الى لبنان وسوريا وشاهَد منذ سنوات تهجيرَ المسيحيين من العراق وسوريا، من أن تأتي هذه الكأس الى لبنان الذي بقي بمنأى عن حروب المنطقة، فيتمنّون أن يحفظ طفل المغارة بلد الأرز الذي احتضنهم وساهموا في نهضته ليبقى ملجأ المظلومين والمضطهَدين في الشرق… على أمل الخلاص القريب.