IMLebanon

الطروحات «الميثاقية» في لبنان ترسّخ الأزمة الوطنية

رغم انقضاء ما يقارب الأسبوعين على نشر مطالعة جبران باسيل حول الواقع السياسي اللبناني، إلا أن أصداء المطالعة لا تزال تتفاعل في الأوساط السياسية والشعبية. تضمنت هذه المطالعة جملة أفكار واتهامات قاسية بحق من يعتبره وزير الخارجية اللبناني مسؤولاً عن استفحال «الأزمة الوجودية» التي حلت باللبنانيين. واعتبر بعض المشتركين في الحوار أن هذا النوع من الاتهامات يفتح الباب أمام تجدد الحرب الأهلية في لبنان. وتكتسب هذه المخاوف شيئاً من الجدية إذ تتزامن مع تلويح كتلة «الإصلاح والتغيير» بـ «الخروج إلى الشارع» من أجل وضع حد لـ «المظالم التاريخية» التي تحدث عنها باسيل و»إصلاح الاعوجاج في النظام اللبناني». وكما يعلم اللبنانيون، فان الخروج إلى الشارع انتهى في عدد من الحالات في تاريخ لبنان بالانتقال من التراشق السياسي إلى استخدام السلاح والاقتتال كأداة للوصول إلى الهدف المطلوب. فهل هناك ما يبرر هذه المخاوف؟ وهل وفّق باسيل في عرض شكوى حزبه والتهديد بالقطيعة والتلويح بالخروج إلى الشارع؟

حتى نعطي المطالعة حقها، فان من المفيد أن نميز بين طابعها العام كمقاربة للعلاقات بين الجماعات السياسية وغير السياسية في لبنان، وبين المطلب الذي انتهت إليه. فعلى الصعيد الأول، قدمت المطالعة وكأنها تنطق باسم الميثاقيين اللبنانيين وأنها بهذا المعنى صادرة عن جهة مؤتمنة على الميثاق وترغب في بقائه واستمراره، وأنها قدمت ولا تزال تقدم التنازلات والتضحيات بغية ترسيخه، إلا أنها لا تستطيع أن تحافظ على هذا الموقف إذا استمر الطرف الآخر في تجاهل الميثاق ومبادئه ومتطلباته. إن استمرار هذا الوضع أوصل لبنان إلى الحضيض، ووضع المسيحيين اللبنانيين على شفير أزمة «وجودية»، كما تقول مطالعة باسيل. وللخروج من هذه الأزمة ولاستمرار العيش المشترك لا بد من الاعتراف بالحقوق والمطالب التي تتبناها أكبر كتلة مسيحية في البلاد.

تتناقض هذه المقاربة مع المقاربة الميثاقية للأوضاع اللبنانية في عدد من المواضع الهامة. والمقارنة بين المقاربتين تساعدنا على اكتشاف الطريق الأفضل لمعالجة الأزمة الوجودية التي حلت بلبنان. فلقد واجه لبنان خلال تاريخه أوضاعاً مأزومة كثيرة، فكان للمقاربة الميثاقية الدور المهم في خروجه سالماً منها. وفي هذه الحالة نجد أن مقاربة الميثاقيين اللبنانيين للأوضاع اللبنانية القلقة بدأت بمراجعة للنفس وإعادة النظر في الكثير من المسلمات التي استندوا إليها إبان سعيهم لتحرير لبنان من الاستعمار الأجنبي وتمكين اللبنانيين من حكم أنفسهم عبر النظام الديموقراطي الذي يضمن حريات الأفراد والجماعات وإقامة علاقات سليمة مع الدول العربية الأخرى.

كان عند الميثاقيين الكثير من الشكاوى والعديد من الحقوق المهدورة وعانوا الكثير من المظالم ومن تبعات الإقصاء المكشوف والتهميش الصارم والإذلال الوطني. وفي حالات متعددة كانوا يجأرون بالشكوى ضد هذا النهج الذي تبنته أطراف خارجية ومحلية. بيد أن الميثاقيين لم يقصروا عملهم السياسي على توجيه الاتهام إلى الآخرين، بل كانوا مستعدين دوماً لتعديل مواقفهم إذا وجدوا أنها تحول دون تحقيق أهدافهم البعيدة المدى. بالمقارنة مع هذه المقاربة، نجد أن مطالعة الوزير باسيل تضع اللوم كل اللوم على الآخرين، والحق المطلق لدى التكتل الذي ينتمي إليه، سياسياً كان أو طائفياً.

وتختلف مقاربة الميثاقيين اللبنانيين، كما يقول تاريخهم، عن المقاربة التي يعتمدها باسيل الذي يرأس «التيار الوطني الحر»، من حيث إن الأولى كانت مطبوعة بنزعة متفائلة في عملها السياسي وفي نظرتها إلى الآخرين، أي إلى المنافسين والخصوم بصورة خاصة. واجه الميثاقيون اللبنانيون صعوبات كثيرة في عملهم السياسي، وحتى يتغلبوا عليها فإنهم لم يستندوا إلى قاعدتهم الشعبية فحسب، بل كانوا يسعون أيضاً إلى بناء جسور التفاهم والتعاون والمودة مع جهات سياسية خالفتهم الرأي والاجتهاد. وفي هذا السياق لم يترددوا في تقديم تنازل اعتبروا أنه يفيد حلفاءهم ومحاوريهم. هذه المرونة سمحت لهم بأن يبنوا تحالفات واسعة حتى مع الدولة المنتدبة نفسها.

إن مطالعة وزير الخارجية اللبناني لا تحمل هذا الطابع. فهي تنظر إلى المنافسين نظرة متشائمة. إنها تحمّل رئيس الحكومة، ومن يمثلهم رئيس الحكومة، مسؤولية إشكالية «وجودية». ولكن هذه الإشكالية لا يعاني منها فريق واحد من اللبنانيين، بل فرقاء كثر ينتمون إلى فئات سياسية متعددة، وطوائف مختلفة، وهي إشكالية تنمو في لبنان وفي العديد من دول المنطقة. فهنا يوجد تحريض مأسوي ضد المسيحيين وسعي إلى تهجيرهم. ولبنان هو واحد من الدول التي دخلتها الموجهة، ولكنه أقل دول المنطقة تأثراً. بالعكس، فمن الملاحظ أن في لبنان موجة مضادة لموجات التهجير، وإدراك عميق في الأوساط السياسية والشعبية للمعاني البائسة التي تحملها هذه الموجة، وللأذى الكبير الذي يلحق بالمنطقة إذا نجحت في تحقيق أهدافها. وهذه النظرة توفر الجو المناسب للتركيز على المطلب الذي حملته مطالعة باسيل.

يتطرق هذا المطلب إلى مسألة تمثيل التكتلات المتحالفة أو المتنافسة في السلطات الحاكمة. ويقترح باسيل الاتفاق على معايير موضوعية يستند إليها في هذه المسألة في تشكيل الحكومات، وفي توزيع الوزارات العادية والسيادية. كذلك توضح المعايير الموضوعية مسألة توزيع المناصب العليا في الإدارات والمؤسسات الحكومية. فتقاسم هذه المهمات والمسؤوليات بين الأحزاب والجماعات المتحالفة انتخابياً وسياسياً هو شأن عادي في النظم الديموقراطية. ففي بريطانيا مثلاً، أعطي حزب الديموقراطيين الأحرار خمسة مقاعد وزارية رئيسية بينما احتفظ حزب المحافظين في حكومة كاميرون السابقة بخمس عشرة وزارة. وفي ألمانيا أعطي الحزب الاشتراكي الديموقراطي خمس وزارات أيضاً من أصل خمس عشرة وزارة رئيسية. وبذلك تعمق التنسيق والتعاون بين الأحزاب المتحالفة، وتم توفير المزيد من الاستقرار في البلدين. بل إن الحكومات الائتلافية وفرت المجال للتقريب بين أحزاب وجماعات ذات عقائد متباعدة وللتخفيف من حدة الصراع العقائدي الذي أدى أحياناً إلى حروب أهلية في الديموقراطيات القديمة.

إن تقاسم السلطة بين الأحزاب المتحالفة هو هدف لانتقادات مستمرة في بعض الدول العربية وذلك انطلاقاً من أن هذه العملية هي من قبيل «المحاصصة». ويستخدم هذا المصطلح في لبنان أيضاً ولكنه في غير محله، وهو من أنماط ردود الفعل الشعبوية على بعض التطورات السياسية التي تلم بدول ديموقراطية. فالحكومات الائتلافية لا تعني، بالضرورة، الاشتراك في نهب الدولة وسلب المواطنين. كما أن حكم الحزب الواحد، حتى لو جاء نتيجة الانتخابات، لا يعني نزاهة الحكم. ولكن حتى لا تتعثر الحكومات الائتلافية فإن من الأفضل أن تنتظم العلاقات في ما بينها وفقاً للمعايير التي يطالب بها باسيل.

لقد كان باستطاعة جبران باسيل أن يطرح مقترحه، وأن يُرفقه باقتراحات مفصلة يتطرق فيها إلى مسألة تنظيم العلاقات داخل الحكومات الائتلافية. وكان بإمكانه أيضاً أن يفصل مناقشة الأوضاع المأزومة في لبنان عن المطالعة التي ضمنها مشروعه. ولكنه دمج الموضوعين وأضاف إليهما مسألة البعد الميثاقي، فزاد التأزم في الوضع اللبناني. لعل هذا النهج يوفر المناخ المناسب لتظاهرة شعبية حاشدة أمام البرلمان، ولكنه لا يوفر الجو الأفضل لمناقشة أوضاع لبنان المصيرية.