IMLebanon

ليش «كلّن يعني كلّن»؟

 

 

نعيش في لبنان ثورة حضارية، بعيدة عن العنف والغضب وردود الفعل العشوائية، يقوم بها شباب متعلمون ومثقفون، يستعملون طاقاتهم في الاستيعاب وتقبّل القمع والغضب أحياناً، نعيش ثورة فريدة من نوعها، محافظة على رباطة جأشها، واضعة أمامها أهدافاً أساسية، أكثر ما يُطلب فيها حقوق معيشية كالتعليم والطبابة وضمان الشيخوخة ومحاربة الفساد. لم يفقد الثوار البوصلة، ولم يتعبوا، على العكس، فقد زادهم الوقت إصراراً وتمسّكاً بحقوق حُرموا منها لسنوات طويلة.

«كل ما بدّن يمرّقو شي صفقة كبيرة بيلهو الشعب بلقمة عيشو، أو غلا البنزين، أو إلغاء الدعم عا ربطة الخبز، بيحولو اهتمام الناس عنّن، بس هالمرة ما رح يقدرو، كلّن لازم يتحاسبو، كلّن يعني كلّن»، قال أبو جوزف، الذي قضى خمسين سنة من عمره بين الجريدة ومشاهدة نشرات الأخبار، والذي يعود إليه الجميع كلّما طرأ طارئ على الساحة السياسية. في حين تواجهه زوجته المتخصصة بعلوم الاجتماع قائلة:»صرنا بعصر نحتاج فيه لإثباتات وأدلة، وبرأيي لا يجوز منطق التعميم، فالمسؤولية تقع على من في السلطة بنسب متفاوتة، بحسب القدرة المطلقة، مع العلم بأنّ الفساد يضرب الهرم من رأسه إلى القعر».

ينطق الشارع اليوم بشعار «كلّن يعني كلّن» لاستهداف الطبقة الحاكمة، أمّا الذي أوصل هذا الكمّ من البشر إلى هذا الإجماع فهو إمّا فقدان الأمل بغد أفضل، أو التعمية التي يعتمدها المسؤولون، فلا يطلعون الناس على حقيقة الأمور، وإجراء الحوارات والنقاشات والاتفاقات في الكواليس، بالإضافة إلى إحكام سيطرة بعض الزعماء على رقاب أتباعهم، فيشدّون الخناق عند الحاجة؛ فيلعب الأوّلون على غرائز حزبية ودينية، يثيرونها عندما يحلو لهم في النفوس.

أما شراء ضمائر المحيطين فلا يقل أهمية عن غسيل الأدمغة إذا صحّ التعبير، فيغرقني زعيمي بالخدمات الاجتماعية والاقتصادية، يسهّل أمور الطبابة والتعليم لأولادي، طالما أضرب بسيف اسمه و»نظافة كفه»، وإلّا، فالجوع والتشرّد، «أنا أعلم بأنني جزء من المنظومة الفاسدة»، يقول فؤاد، «عندما أغضّ الطرف عن تزوير شهادة لابن وزير، كي لا أُحرم من وظيفتي».

أما الصدمات النفسية المتتالية التي تعرض لها اللبنانيون عبر التاريخ الحديث، أي سيطرة مشاعر الخوف والقلق والتوتّر أثناء الحروب الأهلية، التي تعود إلى أذهانهم في هذه المرحلة، فسبب نفسيّ أساسي في الوقت الراهن، خوفاً من تكرارها، فلا يستطيعون أن يحكموا بموضوعية على الأداء الحالي لفريق آخر في حرب أهلية سابقة، وهذا لا يصيب الشعب بوجه خاص، بل الزعماء والمسؤولين أيضاً، ما يثير مشاعر الحقد والغضب عند الأتباع، ويسهّل أمر شائعات مرتبطة بالأزمان الغابرة، وتسويقها وتصديقها كأنّها تحدث الآن، كالحواجز على الهوية ودفع الخوات وغيرها.

ناهيك عن غياب المنطق والموضوعية لدى الكثير من اللبنانيين في ما خصّ زعماءهم، ما يؤدّي بهم إلى التبعية العمياء، ومعروف بأننا شعب انفعالي وعاطفي، ما يجعلنا أرضاً خصبة للتطرف لمن نحب، كأنّ ما يقوله لا يقبل الشكّ ولا النقاش. وتمنعنا سيطرة الانفعال على تصرّفاتنا وطريقة تعاطينا مع الآخر من القدرة على استيعاب المجريات الحقيقية للأمور، كما تبعدنا بشكل فاضح عن الموضوعية.

أمّا من يشارك في الثورة فهو ثائر على التسلط وعدم الموضوعية، ثائر على منطق الاستبداد والاستغباء، رافض للانصياع والاستسلام، كافر بالجوع والحاجة والذلّ. ثائر، غير قابل للتعمية عن الحقائق والتطرف، طامح للحرية والكرامة، بعيداً عن الشعارات الكاذبة.

بغضّ النظر عن «ركوب الموجة» كما يسمّونها، في لبنان شريحتان من الزعماء،

1- زعماء متمسكون بالسلطة ومآثرها، يشعرون بالخطر من فقدان مراكزهم ومقتنياتهم، قلقون، متوترون، يعيشون حالة من نكران الواقع، رافضون أن يضعهم من حكموهم لفترات طويلة في موضع المحاسبة والمساءلة، مع محاولة تبرير أنفسهم وأخطائهم، بالإضافة إلى تحميل المسؤولية لأطراف تدعم الثورة، مستثيرين الغرائز والفتن.

2- في المقلب الآخر، زعماء يحترمون صرخة الشعب، تاركين المراكز والمواقع، واضعين أنفسهم في موقع المحاسبة، ويتعاطون مع المرحلة بموضوعية ووعي. في هذه الشريحة زعماء تقبلوا المرحلة ويتعاطون معها بحثاً عن الحلول للأزمة الراهنة، معترفين بحقوق الناس ومطالبهم.

من هذا المنطلق، علينا كشعب أن نعي وبموضوعية موقف كلّ سياسي ومسؤول على أرض الوطن، أن نميّز بين الفاسد والساعي لبناء دولة حرة ومستقلة، أن نتعاون مع الوطني ونحاسب المرتهن، ونبتعد عن منطق التخوين والتعميم، فليس الجميع خائناً ومتواطئاً، لنرجع للوثائق والمستندات، ونتعاطى مع الأشخاص المسؤولين بالأسماء والملفات والتهم والبراهين.