IMLebanon

صراع على الطاقة

 

 

 

من نتائج الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا انفجار تحدي الطاقة في أسواقها كافة وبالتالي في الأسعار.  روسيا حددت عرض الغاز لمواجهة الغرب الذي يضع عقوبات عليها ويحاول استبدال الغاز الروسي بمصادر أخرى.  الطلب على الغاز سيستمر مرتفعا كل الشتاء الذي يتوقع أن يبقى قارسا كما كان الصيف حارا.  المشكلة المهمة هي الوقت أي ليست هنالك سنوات للتحضير عن بدائل كافية وان بدأت تظهر منذ أشهر.

تغير العالم بسرعة  من فترة اعتدال تتلخص بتضخم منخفض في الدول الصناعية ونمو مستقر ومستمر وفترات ركود قصيرة وعائد منخفض على السندات، الى عالم آخر بدأ عمليا في سنة 2008 مع الأزمة المالية.  في الفترة الذهبية الأولى، انخرطت الدول الناشئة كما الصين وروسيا في الاقتصاد العالمي مما سمح مع التكنولوجيا الجديدة بانتاج سلع ومواد أولية رخيصة بينها الطاقة.  حصل انتقال كبير لليد العاملة من الجنوب الى الشمال مما سمح بانخفاض البطالة وبقاء الأجور معتدلة نسبيا في الدول الصناعية المستقبلة.  تحقيق الاستقرار السياسي سمح بتوزيع فاضل للانتاج تبعا للتكلفة وللميزات التفاضلية.  كانت فترة مميزة انتهت مع «الركود الكبير»، وثم أتت الكورونا التي أضافت الكثير الى المشاكل الموجودة.  أما اليوم ومع الحرب الأوكرانية يستقبل العالم من جديد التضخم القوي عدو الفقراء والنمو والتنمية.

تغير العالم باتجاه اقفال الحدود وارتفاع العنف المبني على شعور عرقي أو ديني أو غيره.  لم تعد الحدود مفتوحة كالسابق، كما ارتفعت حدة الصراعات بين الكبار أي بين أميركا والصين وبين أميركا وروسيا.  أصبح العالم في وضع خطر ينذر بمواجهات جدية بين القوى العالمية.  يقول «يانيس فاروفاكيس» وزير المالية اليوناني الأسبق ان عرض الغاز الرخيص انتهى، واليوم يدفع المستهلكون كما قطاع الأعمال ثمن سياسات الطاقة الخاطئة.  هنالك اعتقاد في رأيه بأن القطاع العام قادر على خلق طاقة تنافسية، وبالتالي قطاع منتج وفعال يقدم الخدمات بأسعار منخفضة.  يؤيد فاروفاكيس لا مركزية الطاقة كما وضع ضريبة على التلوث تذهب لدعم الفقراء.  يريد أيضا أن تقوم الدول بالاستثمار في الطاقة الخضراء، وهذا اتجاه عالمي في زمن تغير المناخ بشكل مضر ومقلق للانسان والحياة.

الغاز الروسي كان مهما جدا لأوروبا والبديل ليس بالضرورة غاز من مصادر أخرى، وانما مصادر جديدة نظيفة كما يقترح فاروفاكيس.  من ناحية الطلب، الحل لا يكون باعتماد بدائل عن الطاقة الروسية بل عبر تخفيض الاستهلاك والذي لا يمكن أن ينجح من دون تعاون كل المواطنين مع حكومات الدول المعنية.  في ألمانيا مثلا اتخذ القرار بتخفيض استهلاك الغاز 15% بين شهري آب 2022 و أذار 2023 لتجنب التقنين وارتفاع كبير في الأسعار.  انخفض استهلاك الغاز في ألمانيا 17% في أيار، 8% في حزيران و 15% في تموز مقارنة بمعدلات الخمس سنوات السابقة.  يقول صندوق النقد الدولي أن وقف امداد الغاز الروسي كليا لألمانيا يخفض الناتج المحلي الاجمالي 3% ويشعل التضخم.  قوة ألمانيا التاريخية سمحت لها بالنجاح في المواجهة.

تعاون المواطن مع الحكومة هو أساسي لتجنب أزمة طاقة، وهذا ما تعول عليه كل الحكومات الأوروبية  في الاستهلاك المنزلي، هنالك عموما عقود موقعة لسنة أو أكثر وبالتالي الأزمة لم تظهر بقوة بعد.  اذا لم تتفاقم الأزمة الحالية، يقدر صندوق النقد ان النمو الألماني لهذه السنة سيكون 0,1% و 1,4% للسنة القادمة والسبب مستوى أسعار الطاقة.  وضعت الحكومة ضريبة على الغاز طبقت بدأ من تشرين الأول لتخفيض الاستهلاك المنزلي.  قدمت مساعدات للعائلات الألمانية غير الميسورة كما دعمت استبدال السخانات المعتمدة على الغاز بالكهربائية.

هذا يبقي كميات ايضافية من الغاز لقطاع الأعمال الذي يتأثر سلبا من تكلفة الطاقة وتوافرها، مما سبب انخفاض الانتاج لأول مرة منذ سنتين.  في فرنسا طلب من المواطنين تحمل درجات حرارة منزلية أقل من 19 درجة مئوية في الشتاء تجنبا للتقنين وتخفيضا للتكلفة المعيشية.  هذا ليس سهلا وتطلب تغييرا مهما في العادات المزمنة المريحة.

هنالك من يشبه أزمة الطاقة الحالية بما حصل في 1979.  وضع وقتها سقف للأسعار كما تحاول بعض الدول الغربية اعتماده مجددا اليوم.  لا تفيد هذه السياسة اذ ترفع الطلب وتفرض التقنين وبالتالي يتضرر المواطن العادي.  لذا من الأفضل ابقاء الأسواق حرة ودعم المواطن الفقير مباشرة وماديا، وهذا ما ارادت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة «ليز تراس» فعله.  من أين يأتي التمويل؟  قالت «تراس» من الضرائب الايضافية التي ستفرض على أرباح شركات النفط المحلية.  قيل للأسر البريطانية أن تكلفة الطاقة سترتفع وسيعود التضخم مجددا، وبالتالي سيرفع المركزي الفوائد.  يدور البريطانيون فعلا في حلقة مفرغة كغيرهم.  في كل حال، التقنين لن يكون نهاية العالم اذا كان خفيفا ومؤقتا لأن المواطن يفهم التحديات ويتعاون مع حكوماته في ظروف دقيقة كالتي نمر بها.

أخيرا خلال الفترة الأخيرة مع الحرب الأوكرانية، ارتفعت أسعار مكونات الطاقة بالاضافة الى المواد الأولية.  هنالك توقعات بشأن أسعار تلك المواد تشير الى امكانية انخفاضها قريبا وبالتالي يصبح ترشيد الاستهلاك أقل قساوة على الموازنات والرفاهية.  هنالك سببان لذلك:

أولا:  هنالك امكانية لحدوث تباطؤ على المستوى العالمي أي انخفاض في الطلب على السلع والخدمات وهذا ما بدأنا رؤيته.  من نتائج رفع الفوائد، وهذا ما تقوم به المصارف المركزية، تخفيض الاقتراض وبالتالي الاستثمارات أي ارجحية حدوث ركود وبطالة.  أيهما أسواء؟  التضخم أم البطالة؟

ثانيا:  ارتفاع الفوائد الحقيقية يجعل تكلفة التخزين أعلى، وبالتالي يذهب فائض المواد الأولية مباشرة الى السوق مما يؤثر سلبا على أسعارها أي لمصلحة المواطن.  من التحديات الحالية، السرعة في تطبيق السياسات الصحيحة مطلوبة.