IMLebanon

مشاهد من دمشق

في فندق سوري عريق، دخل أربعة مثقفين لتناول العشاء. وقفت فتاة أنيقة على المسرح وبدأت الغناء. كان خلفها ثلاثة شبّان يعزفون على الآلات الموسيقية كأنهم أمام جمهور ضخم. قال أحد الجالسين: «هذا المشهد يجسّد إرادة الحياة في هذه المدينة التي تطوّقها الحرب من كل جانب».

أن يزور لبناني دمشق هذه الايام، يعني أنه قرر الانتقال بين نموذجين متجاورين، لا يشبه أحدهما الآخر أبداً. في لبنان «الأمن والاستقرار» خط أحمر كبير، والسياسة غائبة تنتظر ما سيحلّ أخيراً في الاقليم. أمّا بقية الحياة فترزح تحت وطأة الأزمات وكانت آخرها أزمة النفايات المتراكمة في شوارع العاصمة والمناطق.

في سوريا حرب كبرى دمّرت جزءاً وافراً من الامن والاستقرار والاقتصاد، ولكنها لم تمنع عامل النظافة من الوجود على أوتوستراد المَزّة عند الثالثة فجراً، ولم تمنع دمشق من أن تكون أنظف من بيروت.

في فندق سوري آخر، لا يقلّ عراقة عن الاول. الحجوزات مكتملة، لا غرفة فارغة لضيف طارىء. ما السبب؟ أحد الأثرياء يقيم حفلة زواج لولده وقد حجز الفندق بكامله لضيوفه اللبنانيين والعرب والاجانب. كان واضحاً مشهد الانهماك، ثمّة مطرب لبناني شاب من المقرر أن يُحيي السهرة.

الرجال والنساء يظهرون أناقة لافتة، والبهو التحتي للفندق يعجّ باللغات واللهجات. على طاولة عند مقهى الفندق صحافيون أجانب يشربون البيرة، ويتحدثون الانكليزية بصَوت عال، بَدا أنهم جاهزون للانطلاق نحو مكان ما، نحو مهمة صحافية جاؤوا من أجلها.

على الطريق، ثمّة حواجز تفتيش تدقّق في هويّات المارّة والعابرين. الدولة تُمسك بمفاصل المدينة من خلال الجيش والاجهزة الامنية. زحمة السيارات والناس توحي بفكرة التعايش مع الواقع.

لقد اعتاد السوريون الحرب وتكيّفوا مع الإجراءات الامنية، الوقت يمرّ سريعاً. لا يمكن إنجاز أكثر من موعدين خلال النهار. هنا يظهر أنّ الوقت مقابل الأمان، أو الانتظار والاعتياد على العوائق والحواجز، مقابل مدينة آمنة بكاملها تضجّ بالحياة على رغم أصوات المدافع الآتية من الريف.

مؤسسات الدولة ووزاراتها ودوائرها تعمل بطاقة إضافية. كثيرون انتقلوا الى دمشق بسبب الحرب، وصار الضغط على المؤسسات مُضاعفاً، والحاجة الى الخدمات ايضاً. هنا سنجد تداعيات الحرب. الكهرباء نادرة في بعض الاحياء، ولم تسمح الدولة بعد بمولّدات كهربائية على غرار لبنان.

هنالك عقل عنيد يقف خلف قرار كهذا، عقل يريد القول: في معزل عن الاجراءات الامنية الضرورية، لا حاجة لإجراءات استثنائية في بقية القطاعات، الدولة ستعمل على حلّ هذه المشكلة وفق خطة وَضعتها.

والقبول اليوم بمولّدات كهربائية، يعني القبول غداً بفكرة الأمن الذاتي، وهذا ما ترفضه الدولة وتعمل منذ بداية الأزمة على القول إنها موجودة وحاضرة في كل المحافظات. سيَندهِش من يعرف أنّ بريد الوزارات يوزّع يومياً على كل المحافظات، وأنّ آخر مركز شرطة في الشمال او الجنوب او الوسط مرتبطٌ مباشرة بالمركز في دمشق.

صحافي سوري عتيق يجلس في المقهى بعد التقاعد ويتذكر. إنتسبَ الى حزب البعث عام 1962. شَهد أحداثاً وتطورات، عاشَ التحولات السورية على مقربة من السلطة منذ ثورة 8 آذار 1963.

يقول انّ جذور التطرف في سوريا تعود الى مرحلة الخمسينات، عندما أسّس مصطفى السباعي حركة «الاخوان المسلمين» في سوريا. يؤكد أنّ أوّل حادثة متطرفة وقعت كانت عام 1964، يومها قررت الدولة تنظيم رحلة للمدرّسات من كل المحافظات الى منطقة «حماه».

لم يعجب المتطرفون من «الاخوان» مشهدَ المعلّمات يرتدين بنطلونات، بدأوا بالتحريض على الدولة وهجموا على مركز الشرطة. ويروي قصة يريد من خلالها إظهار انتهازية «الاخوان المسلمين».

في الخمسينات كان الحزب الشيوعي السوري قوياً في الشارع. اليسار عموماً كان يمثّل وجدان ومطالب السوريين من العمال والفلّاحين والمثقفين الثَوريّين. وعندما جاء وقت الانتخابات، قرّر «الاخوان» تغيير اسمهم الى «الجبهة الاسلامية الاشتراكية» من أجل كسب الشارع وتعاطفه!!

ضابط شاب يعمل في أحد الاجهزة المهمة، يجلس في مكتبه ويتابع عمله المُعتاد. يقدّم لضيوفه الحليب مع العسل والزنجبيل، ربما هذا دليل آخر على حالة الاسترخاء والاطمئنان والتعايش مع الازمة.

يبدو مرتاحاً لمسار الاوضاع السياسية، يلخّص الموقف بكلمتين سمعهما بدوره من مسؤول كبير: «أمامنا أشهر حاسمة ومهمة، بعدها سنكون أمام تسويات كبرى أو انفجار كبير». يبدو الرجل واثقاً ممّا يقول. وعندما يجيب على الهاتف يقف متحدثاً مع رئيسه، وبكلمتين اثنتين يُنهي المكالمة: «عُلم، ويُنفّذ فوراً سيدي».