IMLebanon

الهمروجة الفاشلة.. وغيبوبة السلطة القاتلة

 

همروجة توقيف وليام نون تُجسّد حالة الإنفصام الحاصل في مواقع القرار في الدولة، حيث أصبح القرار السياسي في وادٍ، والقرار الأمني في وادٍ آخر، رغم كل ما يُقال بأن حزب الله ممسك بطرفي القرار السياسي والأمني.

علمتنا التجارب في لبنان وفي دول أخرى، أن القرارات الأمنية البحتة لا تصيب أهدافها دائماً، كما أن الخطوات السياسية غير المدروسة، تقع في شر ردود الفعل الأمنية.

وهذا ما حصل في الهمروجة الأمنية ــ القضائية الأخيرة، التي غابت عنها الأبعاد والحسابات السياسية، فلم تُصِب أهدافها وحسب، بل أدّت إلى نتائج عكسية تماماً.

وإذا حاولنا أن نضع الأمور في إطارها الصحيح، فلا بد أن نأخذ بعين الإعتبار عدة معطيات تساعد على تشخيص واقعي لحالة الإرتباك والبلبلة التي تعيشها الدولة اللبنانية، والتي دخلت مصاف الدول المارقة والفاشلة.

ويمكن تلخيص أبرز تلك المعطيات بالنقاط التالية:

١ـ وقوع السلطة في غيبوبة الشغور الرئاسي، وما تفرزه من صراعات على السلطة بين ديوك السياسة، ومضاعفاتها في تعطيل قرارات السلطة التنفيذية بحجج دستورية واهية، لا تُقيم وزناً للحالة الإستثنائية التي يمر بها البلد في هذه المرحلة الحرجة. كما هو حاصل حالياً في ملف السلفة الكهربائية، على حساب إبقاء الناس في العتمة، وتكبيد الخزينة مئات ألوف الدولارات غرامات تأخير تفريغ البواخر.

٢ـ تصدع مفاصل الدولة تحت ضغط الإنهيار الإجتماعي والنقدي، وإنعكاساته المدمرة على القطاع العام، الذي أصيب بأكثر من شلل نصفي، نتيجة عدم إنتظام العمل في الإدارات العامة، بسبب عدم حضور الموظفين إلى مكاتبهم، بعدما تبخرت قيمة رواتبهم، وأصبحت بالكاد تكفي بدل التنقلات، في حال الذهاب يومياً إلى وظائفهم.

٣ـ تزايد حدة الإنقسامات السياسية عامودياً بين الأطراف السياسية الرئيسية، وأفقياً بين الكتل النيابية المتناثرة، نتيجة القانون الإنتخابي الهجين، الذي جرت على أساسه الإنتخابات الأخيرة، مما ساهم، وإلى حد كبير، في تعطيل الإستحقاق الرئاسي، وإبقاء الجلسات الإنتخابية على مستوى الإستعراضات المسرحية، ونجمتها الأساسية الورقة البيضاء.

٤ـ غياب المرجعية الوطنية القادرة على البقاء فوق مستوى الخلافات السياسية والحزبية، والتي تستطيع أن تكون همزة وصل بين الأطراف المتصارعة، وتطرح حلولاً وسطية، تراعي المعادلات الوطنية، وتقوم على تسويات متوازنة. وهذا ما قام به الرئيس الراحل حسين الحسيني قبل وخلال مؤتمر الطائف، الذي أخرج البلاد والعباد من آتون الحرب البغيضة التي كادت تقضي على الصيغة والكيان.

٥ـ وقوع القضاء في شباك التدخلات السياسية، التي لم تترك مجالاً للحفاظ، ولو على النزر اليسير، من إستقلالية القضاء، بعدما دخلت التعيينات والمناقلات القضائية في البازارات السياسية، التي كانت عطّلت التشكيلات القضائية منذ أكثر من ثلاث سنوات.

٦ـ تغليب أجندات خارجية على المصالح الوطنية، مما أوصل السلطة إلى ما هي عليه من ضياع وشلل، تحت ضغوط العوامل الخارجية، وحدّة الصراعات الدولية والإقليمية، والتي جعلت من وطن الأرز إحدى ساحاتها.

إزاء هذا الإهتراء المتمادي في نسيج الدولة ومسار الإنتظام العام، لم يعد مستغرباً ما يحصل من مهاترات، كلما لاحت بوادر جلسة لمجلس الوزراء، وليس مفاجئاً ما حصل مع وليم نون من توقيف وتحقيق، وضع الجلاد ضحيته خلف القضبان، وإستفز مشاعر الناس، وكرامات أهالي الضحايا الذين رفعوا الصوت عالياً في الشارع، الذي شهد وقفة وطنية، أعادت إلى الأذهان مشاهد ثورة ١٧ تشرين ٢٠١٩.

ثمة من يعتبر أن الضربة التي تم توجيهها إلى أهالي الضحايا، هدفها الأساس هو إسكات الأصوات التي تطالب بنتائج تحقيقات الإنفجار الزلزالي في مرفأ بيروت، وكشف ملابسات ما حصل في ذلك اليوم المشؤوم، وأسفر عن تدمير أحياء بكاملها في سيدة العواصم.

ولعل مجيء الوفود القضائية الأوروبية إلى بيروت كان من دوافع إستعجال هذه الخطوة المتسرّعة، وغير المدروسة، إبعاداً لملف المرفأ عن إيدي المحققين الأوروبيين، وما يمكن أن يؤدي أليه من كشف الملابسات والحقائق.

ولكن ردة الفعل الشعبية، والتي دعمتها بكركي وحزبا الكتائب والقوات وعدد من النواب، أجهضت العملية، وقلبت السحر على الساحر، وأعادت قضية المرفأ إلى الواجهة بقوة، وكشفت تخاذل وتهالك بعض مواقع السلطة في واحدة من أبشع صورها.

فهل تكفي صدمة الهمروجة الفاشلة في إخراج السلطة من غيبوبتها القاتلة؟