IMLebanon

«غرفة إتصالات» حميميم لفرز المعارضة في منطقة «سوريا المفيدة»

مع بدء التحضيرات لهدنة وقف إطلاق النار في سوريا، افتتح الروس غرفة اتصالات في منطقة حميميم التي تُعتبَر المعقل الأساس لانتشارهم العسكري في سوريا، وعمَّموا على وسائل إعلام سوريّة «إيميل غرفة الاتصالات»، وأرقام هواتفها واستمارة موجّهة إلى الفصائل المعارضة لتعبئتها كإشارة منهم على رغبتهم في التزام وقف إطلاق النار.

تحتوي هذه الاستمارة على أسئلة تفصيلة عن اسم الفصيل الراغب في التزام وقف إطلاق النار والانتقال إلى العملية السلمية واسم المنطقة المتمركز فيها والأماكن التي تنتشر فيها مواقعه العسكرية.

ويُعتبر كلّ فصيل يملأ هذه الاستمارة ويبادر لإرسالها بالإيميل الى غرفة الاتصالات في حميميم، بأنّه جزء من الهدنة ويدرَج اسمه كقوة معتدلة، وتصبح مواقعه العسكرية محيّدة وغير مستهدفة من سلاح الجوّ الروسي أو أيّ عملية عسكرية أخرى.

ثمّة أمر لافت يتَّصل بهذا الإجراء الروسي بحسب مصادر سوريّة متقاطعة من المعارضة والنظام، وهو أنّ الموظف أو الضابط الذي يجيب على الاتصالات الهاتفية الواردة من الفصائل والمجموعات المعارضة الى غرفة الاتصالات في حميميم هو أميركي الجنسية.

وهذا يعني أنّ غرفة الاتصالات لها عنوان روسي ولكنّها في واقع الأمر نتاج جهد مشترك روسي اميركي، هدفه العمل سويّاً على مستوى التفاصيل لتحصيل معرفة ميدانية كاملة عن خريطة ميدان المناطق الخمس التي أعلِن فيها وقف إطلاق النار، وهي كلّها موجودة ضمن نطاق منطقة «سوريا المفيدة».

وتؤكّد تركيبة غرفة حميميم للاتصالات، معلومة سابقة ومثبتة من وجهة نظر كواليس سياسية غربية وعربية، مفادُها أنّ وقف إطلاق النار المعلن منذ أيام له هدف أساس وهو فرز المعارضة الموجودة في المنطقة التي بات يُصطلح على تسميتها بـ»سوريا المفيدة» والتي تخضع نسبة عالية من أراضيها لسيطرة النظام وحلفائه.

والمقصود هنا بمصطلح «فرز المعارضة» هو إنشاء آليّة عمل تفضي في نهاية نطاقها إلى جعل خريطة المعارضة السورية مكوّنة من اتّجاهين فقط لا ثالث لهما: معارضة معتدلة ومعارضة «داعش».

والواقع أنّ غرفة الاتصالات في حميميم التي تشرف على تنفيذ خطة «فرز المعارضة»، تنفّذها من خلال الاستمارة التي عمّمتها على وسائل الإعلام السورية بقصد أن تجعلها في متناول كلّ المجموعات والفصائل المسلّحة الموجودة في منطقة وقف إطلاق النار.

وعليه، فإنّ المجموعات التي تقوم بتعبئتها وإرسالها إلى غرفة حميميم، تُعتبر جزءاً من الهدنة وقوّة غير مصنّفة إرهابية، أمّا المجموعات والفصائل التي تتجاهلها وترفض تعبئتها وإرسالها إلى غرفة الاتصالات، فتُعامل على أنّها جزء من معسكر «داعش»، وسيتمّ استهدافها لإخراجها من مواقعها.

بعد مرور أيام قليلة على بدء تنفيذ فرز المعارضة تحت عنوان هدنة وقفِ إطلاق النار، أعلنَ نحو مئة مجموعة وفصيل معارض موافقتَهم على الهدنة، ولا شكّ في أنّهم أرسَلوا «إيميلات» إلى غرفة اتصالات حميميم تُبيّن مواقعَهم ومناطق انتشارهم.

«رقم مئة» يُثير شكوكاً بقدر ما يثير تفاؤلاً بأنّ المستجيبين لخطّة فرزِ المعارضة السورية والنأي بأنفسهم عن أخذِهم إلى تصنيفهم كـ«داعشيين» وتكفيريين ومعاديين للحلّ السياسي، ليس عددهم قليلاً داخل خريطة طيف المعارضات والمجموعات السورية المسلحة المنتشرة في منطقة وقف إطلاق النار.

ولكنّ مصدر الشكوك ينطلق من أنّ المعارضة السورية العاملة فوق الميدان متشَظّية بمجموعات مختلفة الأحجام، وذلك لدرجة توحي بأنّ أعدادها الإجمالية قد تبلغ المئات وربّما أكثر من ألف مجموعة وفصيل.

وعليه تبدو لعبة غرفة اتصالات حميميم الروسية – الاميركية المشتركة لانتهاز مناسبة هدنة وقف إطلاق النار بهدف رسم خريطة واضحة تحصي كلّ هذه المجموعات، وتحديد أماكن انتشارها ومقدار تسلّحها، أشبَه بعملية ترميم لإناء الزجاج المهشّم.

مع ذلك لا يزال هناك رهانٌ على إعطاء فترة الهدنة وقتَها الزمني الكافي، لتحقيق غرَض مسحِ الميدان في منطقة دولة «سوريا المفيدة»، وجعلِه في نهاية المطاف متقدّماً بين طرفين لا ثالث لهما: النظام وحلفائه الذين يَسطع حالياً نجم النفوذ الروسي داخل طيفهم، والمعارضة المعتدلة المسموح لها البقاء في مواقعها طالما إنّها وافقَت على وقف لإطلاق النار يفضي إلى مشاركتها في عملية

سياسية من دون شروط مسبَقة. أمّا بقيّة المجموعات التي لم تملأ استمارة غرفة حميميم وظلّت على سلاحها، فستُعامل على أنّها جزء من مناخ «داعش» و«النصرة» المدرَجتين على لائحة الإرهاب الدولية.

وتسعى خطة وقفِ إطلاق النار في النهاية إلى تجديد الاشتباك العسكري معهم لإرغامهم على الخروج من منطقة الهدنة إلى منطقة الرقة ومناطق شمالية وشرقية سيتمّ فيها حشرُ كلّ المعارضات السورية غير المعتدلة والمصنّفة عموماً على أنّها «داعش» أو ملتحقين بمناخها.

ثمّ تبدأ بعد ذلك العملية الدولية والإقليمية الأصعب التي لا تحظى بتوافق حتى الآن، أو لا يوجد حتى اللحظة إجابة عملية وشافية على أهمّ سؤال فيها، وهو مَن سيَملأ الفراغ مكان «داعش» وشقيقاتها بعد إخراجهم منها؟

الأميركيون يقدّمون إجابتين مبدئيتين: تقترح الأولى صحوات سنّية تتشكّل من أبناء القبائل العرب، يتمّ إنشاؤها بجهد من المخابرات الاميركية في المنطقة الشرقية من سوريا. وقد كشفَ أحد شيوخ هذه القبائل لـ«الجمهورية» أنّ المعروض عليهم من واشنطن هو إنشاء جيش من الصحوات يقارب الخمسين ألفاً، لافتاً إلى وجود تجاوب من القبائل مع دعوة أميركية لقبائل المنطقة الشرقية ليطبّقوا داخل صفوف عشائرهم نظامَ التجنيد الإجباري.

الإجابة الأميركية الثانية تقترح أن يملأ الأكراد الفراغ في مناطق كثيرة من المنطقة الواقعة خارج «سوريا المفيدة»، ولكنّ تركيا تضع فيتو على دورٍ بهذا الحجم للأكراد.

وضمن هذا السياق كشفَت معلومات عن زيارة قام بها قبل أسابيع ممثّل شخصي للرئيس الاميركي باراك اوباما، ماك غورك، الى كوباني واصطحب بطلب من البيت الأبيض شخصية فرنسية برتبة سفير وأخرى بريطانية، وتدارَسوا مع القيادة الكردية دورَ الكرد في تعبئة الأمن في مناطق «داعش» وتسيير شؤون الحياة فيها بعد إخراج الدولة الإسلامية منها.

روسيا من جهتها تريد أن يملأ الجيش السوري فراغ «داعش» وشقيقاتها بعد إخراجهم منها. لكن لا الأميركيون ولا السعوديون أو الأتراك يوافقون على هذا الطرح، وليسوا على استعداد لبذل مجهود مالي وعسكري لتنظيف المنطقة من «داعش» وتقديمها إلى نظام الأسد كهدية مجانية.

على هامش هذا النقاش الذي يمثّل مشكلة مؤجّلة حالياً، يبني الروس الفيلق الرابع داخل الجيش السوري. وتفيد المعلومات أنّ موسكو درّبت في روسيا خلال الأشهر القليلة الماضية نحو ثلاثة آلاف ضابط متقاعد ومن خارج الخدمة الفعلية في الجيش السوري، ليكونوا نواةَ قيادة بناء الفيلق الرابع المتشكّل بمعظمه من متقاعدين وموظفين ومجنّدين ومتقدّمين للخدمة في الفيلق الجديد من بيئات مدنية مختلفة.

وبحسب المعلومات فإنّ هذا الفيلق ليس قتالياً بالمعنى الاحترافي للكلمة، بل هو مشكّل من وحدات تستطيع القيام تحديداً بـ«مهمّات السيطرة والتحكّم داخل المدن والبلدات الكبيرة والمفاصل الحيوية للطرق الرئيسة».

وعليه ليس واضحاً بعد ما إذا كانت موسكو تعدّ هذا الفيلق ليكون بديلاً عن قوات الحماية الوطنية الشعبية (ميليشا موازية للجيش السوري وتساعده في أعمال القتال) التي يَغلب على إنشائها البصمة الإيرانية، أو ما إذا كان له مهمّة إحكام السيطرة داخل مدن وبلدات منطقة سوريا المفيدة بعد إتمام عملية فرز المعارضة داخلها بين معتدلة موافقة على الانخراط في العملية السلمية، ومتطرّفة سيتمّ معاودة الاشتباك بعنف معها تمهيداً لإخراجها الى مناطق «داعش».

خلاصة هذه الفكرة إنْ صحَّت، تعني أنّ روسيا تنشئ فيلقاً للسيطرة والتحكّم، أو فيلقاً شرطياً بمعناه العميق، لكنّه يملك حرفيات قتالية معينة. ويتيح هذا الأمر بعد إنجازه تمكينَ الجيش السوري العودة إلى ثكناته، كما الحال في الدول الديموقراطية، ويصبح الفيلق الرابع هو بديل القوى الخاصة داخل الجيش التي عادةً ما كانت تكلّف بالتدخّل للسيطرة على المدن حينما تَنشب قلاقل بداخلها.

ويلاحَظ أنه في الآونة الأخيرة، بدا النظام السوري ينفّذ توجّهاً لتخفيف حواجز الجيش داخل العاصمة والمدن الأخرى الخاضعة لسيطرته، وثمّة من يعتبر ذلك بمثابة أوّل إرهاصات رسم سياسة أمن جديدة داخل المدن ليس لها صِلة بذاكرة الصراعات القديمة بينها وبين النظام.

يبقى القول بحسب معلومات لم يتيسّر التأكّد منها من مصادر منسوبة إليها، إنّ واشنطن وعَدَت تركيا بأنّها ستسعى لفيدرالية في سوريا تَمنح مناطق السنّة بعد تحريرها من «داعش» في الشمال والشرق، سلطةً موسّعة، في مقابل سلطة مريحة للنظام في منطقة «سوريا المفيدة».

دمشق ترفض طبعاً كونفدرالية تقسيمية وتصِرّ على فيدرالية على الطريقة الأميركية. لكن أوان ظهور هذا الصراع إلى العلن لا يزال متأخّراً، ففي اللحظة الراهنة تراقب موسكو وواشنطن المآلَ الذي ستصل إليه خطة فرز المعارضة السورية في منطقة «سوريا المفيدة» والتي لم يكن صدفةً أنّ المناطق الخمس التي أعلنَتها الهدنة تقع ضمنها.