IMLebanon

جدار برلين اللبناني

 

لن تكون مهمة سهلة إقناع مئات ألوف اللبنانيين، الذين نزلوا إلى مختلف ساحات المدن والجادات والطرق منذ الخميس الماضي، بأن مجرد إقرار مجلس الوزراء الحالي ورقة اقتصادية اجتماعية تستجيب لمطالبهم، كافٍ لأن يعودوا إلى منازلهم وإيقاف أنبل ظاهرة شهدها الشعب اللبناني في كل تاريخه الحديث.

 

لم يحصل في السابق أن تحرك لبنان كله في سيل موحد جارف كما شهدنا في الأيام الماضية، ففي الأغلب كانت التحركات المطلبية لا تجذب سوى الأعداد القليلة عموماً وارتبطت تجربتها بحركات نقابية، وفي قليل من المناسبات اصطدمت محاولات حشد شبابية تحت عناوين وطنية وانسانية بهجوم أزلام زعماء الطوائف من قادة الميليشيات المتجددة، ولم يبقَ في الساحة نتيجة لإغراق هؤلاء الزعماء في خطابهم الطوائفي الديماغوجي، إلا مهرجانات تجار المناسبات الدينية، الذين اعتادوا جمع الأتباع قطيعاً موحداً لتتلى عليه بين الفينة والفينة توجيهات وتعليمات القائد التي لا يربطها بواقع حياة القطيع وصعوبات عيشه أي رابط.

 

جرى تمزيق لبنان طوال سنوات إلى ملل متناحرة، ما سمح لأركان الحكم بأن يرتاحوا فوق رقاب العباد وأن يُمعنوا في البلد فساداً ونهباً وتمادياً في خرق الدستور والقوانين، وتجاهلاً وإهمالاً للأساسيات في حياة المواطن، في مجالات العمل والصحة والبيئة والخدمات العامة والاطمئنان إلى المستقبل.

 

الجديد الآن، وهو أهم بكثير من المطالب التي فجرت هذه الانتفاضة، هو في قدرة المطالب نفسها وسنوات من القهر المتعدد الأشكال، على تحقيق ذلك الانصهار الوطني الذي تحدثت عنه السلطات المتعاقبة وهي تُمارس منع حصوله. تبين فجأة أن هناك شعباً واحداً بطوائف متعددة، وأن الطوائف ليست عائقاً عندما لا يتحكم بدفتها تاجر سياسي.

 

وكما حصل في ألمانيا قبل 30 سنة، إتّضح أن جدار برلين اللبناني أسرع إلى الانهيار. فتحولت بيروت إلى مهرجان دائم، وأنشدت طرابلس والنبطية وصور وبعلبك وجونية والبترون، إلى جانب بيروت، النشيد الوطني في وقت واحد.

 

الشعور بالقوة لدى اللبنانيين، رغم الشائعات والتهديدات التي مورست من أطراف ميليشيوية وعزلت حتى في محيطها، يدفعهم إلى طلب الكثير. والعنوان الأبرز الذي يتردد يومياً عن إسقاط النظام والحكومة والرؤساء والنواب، ليس إلا بنداً في سلسلة مطالب تغييرية شاملة وباتت ضرورية في وعي الناس. وأبعد من ذلك، لدى كل لبناني يشارك في الهبة الشعبية برنامجه المطلبي الخاص، ولو أمكن تسجيل مطالب الأشخاص فرداً فرداً من الشمال إلى الجنوب فسنكون أمام لائحة لا تنتهي من المسائل التفصيلية التي تحتاج النظر والمعالجة.

 

لهذين السببين، شعور الجمهور بقوته نتيجة وحدته، وارتفاع سقف مطالبه الأساسية والتفصيلية، سيكون صعباً إقناعه بورقة إصلاحات وتدابير تصدرها الحكومة القائمة، رغم إمكانية استجابة هذه التدابير لمطالبه. وسيكون موضوع التغيير الحكومي مطروحاً ليتحول إلى مطلب أول لدى الحشود. وهذا ما يضع رئيس الحكومة في موقع لا بد أنه يدركه جيداً، فحكومة مثل حكومته بوزراء لا يرف لهم جفن تجاه حريق أو سمسرة أو تعطيل، ليست مصدر ثقة بأن ما كتب وتقرر سيأخذ طريقه إلى التنفيذ.

 

ومهما حصل، فإن نقطة أساسية يجب ألا تغيب عن “ثوار لبنان”، لتكون بنداً أساسياً في البرنامج الحكومي المقبل، وهي حماية الحريات العامة وحق الكتابة والنشر والإعلام خصوصاً. فمن دون هذه الحريات ستكون كل إنجازات الشعب اللبناني مهددة، وسمعنا وسنسمع تهديدات في هذا المجال، الرد عليها بتكريس بند الحريات في برنامج الحكومة المنتظر والمنتظرة.