IMLebanon

الحرب الأهلية في السودان بين القبليّة والديمقراطيّة!

 

إندلعت في الأسبوع الماضي في السودان حرب أهلية تمثلت بقوتين عسكريتين متواجهتين منذ مدة: الجيش السوداني بقيادة اللواء عبد الفتاح البرهان وقوات التدخل السريع بقيادة اللواء محمد حمدان دقلو. وسرعان ما امتدت نار الحرب إلى مختلف أنحاء السودان وخاصة إلى المراكز العسكرية: من مراكز قيادة عسكرية وثكنات ومطارات داخل الخرطوم وحولها مستهدفة القصر الجمهوري ومراكز المخابرات ومقر التلفزيون الرسمي. ويأتي هذا الحدث ليعيد إلى الأذهان ذكرى انتهاء الحرب الأهلية في السودان التي استمرت لمدة خمس سنوات (2014-2019) وقتل فيها 380 ألف شخص وهجر فيها 4 ملايين مواطن إلى الخارج. وحدث الانشقاق في السودان بحيث قامت دولة جنوب السودان وعاصمتها جوبا بمساحة 644 ألف كيلومتر مربع ونحو 13 مليون شخص وهي تكاد تعادل ثلث الجمهورية السودانية.

 

هذا الواقع الجديد داخل السودان بخلفيته التي ذكرنا، يطرح جملة أسئلة ينبغي السعي للتوصل إلى أجوبة حولها: ما الذي يجري حالياً في السودان؟ وما هي أسبابه؟ وما هي نتائجه الممكنة والمتوقعة؟ وما هي انعكاساته ليس على الشعب السوداني فقط، وانما على شعوب الاقليم الأفريقي والشعوب العربية وصراعات القوى الاقليمية والدولية؟

 

أولاً: ما الذي يجري حالياً في السودان؟

 

ما يجري حالياً في السودان هو بكل اختصار نذير حرب أهلية. إنه في ظاهره صراع عسكري بين الجيش السوداني الرسمي وفصيل عسكري اتخذ لنفسه تسمية قوات التدخل السريع، وهو يتمتع بشبه استقلالية في التخطيط والعمل وليس خاضعاً لقيادة الجيش العسكرية. هذه الفجوة تجعله أقرب لأن يكون ميليشيا عسكرية داخل الدولة السودانية. وعلى الرغم من أجواء الدعاية في الحرب لقوة هذا الفصيل العسكري، فإنّ حجم المواجهات التي يرفعها في وجه الجيش النظامي تؤكد وجود قوة لا يستهان بها لديه: إن في العدد أم العديد أم التسلّح ليس على المستوى العاصمة الخرطوم فقط، بل على مستوى مختلف أنحاء البلاد بما في ذلك استخدام سلاح الطيران. واتخاذ مبادرات ذات مغزى من مثل مهاجمة مقر رئاسة الجمهورية (القصر الجمهوري) والمطارات: مطار الخرطوم ومطار مروي.

 

ثانياً: أسبابه

 

من الضروري استيعاب مجمل الوضعية السودانية في أبعادها الجيو- سياسية وهي وضعية معقدة ذات خلفيات ماورائية واثنية ولغوية وجغرافية. ولعل أهم تعبير لهذه الوضعية هو قول هنري كيسنجر عن ذلك الحيّز الجغرافي: «إنه مجرد صحراء ويريد أن يجعل من نفسه مدينة». إنّ الفاصل بينهما هو فاصل واسع وعريض وعميق، وتجاوزه ليس مسألة سهلة. إنّ انتقال السودان من عالم الفطرة إلى عالم الحضارة، ومن عالم القبيلة إلى عالم الديمقراطية، ليس مسألة بسيطة. إنّ قيام انقلاب عسكري على السلطة الظالمة لا يعني الانتقال فوراً إلى حكم ديمقراطي.

 

فالديمقراطية هي مثل كل شيء فلسفة للحياة وتقدير للآخر واحترام للقانون… وهي أمور تتعارض، بل وتتناقض مع الفكر البدوي، لهذا شعر بعض المسؤولين الانقلابيين بالاحباط حين فشلوا في اقناع الجماعة بالسير في طريق التقدّم والتجدّد. ومثل هذا الصراع كان العلامة الفارقة بين جمود فكر القوى القيادية العسكرية من جانب وقوى التطوّر الديمقراطي من جانب آخر. ولهذا تحوّل الصراع داخل المجتمع السوداني إلى صراع بين القوى المثقفة الديمقراطية من جانب، وقوى العسكر المتجمدة في نهجها من جانب آخر. مع الاشارة إلى قيام قوى عسكرية باستغلال الأمر لمصلحتها كمساندة للقوى الديمقراطية وهو ما ولّد صراعاً دفيناً بين القيادات العسكرية ومنها الجيش الوطني بقيادة البرهان وقوات التدخل السريع بقيادة دقلو. بالاضافة إليه ليس علينا أن ننسى أهميّة دور القوى الاقليمية والدولية في ازكاء هذا الصراع. والملفت، وغير المتوقع لدى الكثيرين هو الدور الذي لعبته اسرائيل في هذا المجال. فالسودان هو رئة اسرائيل إلى أفريقيا والعالم. ولذا فهي عملت دائماً على أن يقوم في السودان حكم، إذا لم يكن موالياً لها، فعل الأقل غير معاد لها.

 

لذلك عملت الدولة العبرية دائماً على أن يكون في السودان حكم ترتاح إليه ويخدم مصالحها. وفي فترة من التاريخ كان مشروع اسرائيل وسواها، تحويل جزء من مياه نهر النيل إلى اسرائيل لسد حاجتها من المياه. مع اعتبار السودان نقطة العبور والأهم للمصالح التجارية الاسرائيلية إلى دول أفريقيا والعالم!

 

ثالثاً: نتائجه

 

من الصعب المسارعة إلى استخلاص النتائج التي سترسو عليها الحرب الدائرة الآن في السودان والتي تزداد اشتعالاً مع مرور الوقت، بحيث تنتقل من الخرطوم إلى مختلف أصقاع البلاد حاملة معها القتل والدمار والأرض المحروقة بما فيها المطارات والطائرات! وإذا كان من الصعب تبيّن النتائج التي ستنجم عن هذه الحرب الأهلية الجديدة في السودان قبل مرور زمن كافٍ لكي يتبيّن مسار الأحداث واتجاهاتها وخلفياتها والقوى الضالعة فيها، فإنه من باب الاستنتاج المنطقي توقّع ما يلي:

 

1 – إن هذه الحرب الأهلية، بما تحمله من إشارات صادمة ستساهم فعلاً في تعمق الشرخ بين مختلف قوى الأمة السياسية والعسكرية والقبلية. وبدل أن يتجه السودان نحو مزيد من الهدوء والانماء فإنه سيتجه إلى مزيد من الفوضى والصراع والبلبلة.

 

2 – ولعل ما هو أبعد وأخطر من ذلك على حياة الشعب السوداني، مفاعيل الأضرار الكبرى التي ستلحق بمصالح كافة قطاعات الشعب، الادارية والزراعية والصناعية والتجارية بما يعرّض السودانيين للعيش في مرحلة من الفقر المدقع مع تراجع النمو الاقتصادي في كافة المجالات إلى مستويات خطرة وبديل ان تكون البلاد مقدمة على قفزة نحو النمو الاقتصادي كما كان السكان يتوقعون وكذلك المؤسسات الدولية، ها هي الحرب تعيد السودان إلى قعر الدول الفاشلة في افريقيا وفي العالم.

 

3 – إشتداد الصراع القانوني بين الجهات التي تخوّن بعضها بعضاً. وتتخذ قرارات بحل المؤسسات المناهضة او بتقديمها إلى المحاكمة من جهة أخرى، بحيث لا يعود يعلم من هي القوى الشرعية ومن هي القوى المتمردة.

 

4 – هذه الأحداث ستجعل دولة السودان أكثر عطوبيّة وتبعيّة. عطوبية: لأنها ستفقد مع الحرب الأهلية مصداقيتها الداخلية والخارجية كواحدة من الدول الكبرى في الأسرة العربية والافريقية. وتبعيّة: لأنّها ستجد نفسها بمختلف مكوناتها المتصارعة مدفوعة إلى الاستعانة بقوى خارجية لدعمها عسكرياً وسياسياً الأمر الذي يضعها في موقع التبعيّة للقوى الكبرى وحتى للقوى الاقليمية ونموذجها مصر.

 

5 – ولعل هذه الحرب هي الدليل الأوضح على عدم فاعلية مؤسسة الجامعة العربية بحيث أنها غير قادرة على اتخاذ موقف حاسم وفاعل في واقعة هي من أخطر ما يواجهه العالم العربي وجوداً ومصيراً.

 

6 – ولعل النتيجة الكبرى والعظمى هي في خفوت صوت القوى الديمقراطية التي رفعت شعارات الثورة ضد البشير ومن ثم ضد الحكم العسكري في السودان مطالبة بالحكم المدني الديمقراطي.

 

هذه الحرب هي عودة إلى زمن القبيلة على حساب الديمقراطية. وهذه العودة تحدث في السودان الابن المريض للعالم العربي!!!