IMLebanon

لقد سرق الانقلاب إسمي

 

يجمع بين الانقلاب والثورة أنّهما يطيحان نظاماً من الأنظمة. لكنّ الاختلاف بينهما أنّ الثورة تفعل ذلك بقوّة الشعب، أو جزء أساسي منه، فيما يفعله الانقلاب بقوّة العسكر، أو بعض ضبّاطه وأمنييه. والثورة لا تستهدف السياسة فحسب، بل تستهدف الثقافة والاجتماع أيضاً. إنّها تشتغل على اللبّ. أمّا الانقلاب فيقتصر على تغيير السلطة، وكثيراً ما يتقلّص طموحه إلى تغيير بعض رموزها فحسب. إنّه اشتغال على القشرة.

لهذا تبدو الثورة زاهية فخورة بذاتها: فهي تحدث في الساحات والميادين، على مرأى العالم ومسمعه. لكنّ الانقلاب، وهو يُهندَس في الغرف المغلقة، ويجري في العتم، يخجل من نفسه ومن اسمه. هكذا يسمّي الانقلابيّون صنيعهم ثورة، فينأون به عن التآمر المقيم فيه، وينسبون إليه أهدافاً مجيدة، كما يُدرجونه في خانة جليلة تتصدّرها الثورتان الأميركية والفرنسية.

الثورة تؤلّف الأغاني التي تحتفل بالعالم. الانقلاب يؤلّف الأناشيد التي تهدّد العالم.

والثورات ليست بالضرورة، وبالمطلق فاضلة، فهي أحياناً تؤسّس أنظمة تشبه تلك التي تؤسّسها الانقلابات، وقد تُخرج التآمر والدسائس من القمقم، وتسلّطها على الرقاب. لكنّ الثورات في شكلها الجديد، أي تلك المدنية واللاعنفية التي افتتحتها أوروبا الوسطى أواخر الثمانينيات، ثم اتّسمت بها بدايات الثورات العربيّة، فاضلة في المجمل، لا سيّما حين تُقاس بما ثارت عليه.

والحال أنّ المنطقة العربية أوغلت في الانقلابات العسكرية منذ استقلال بلدانها، وها هي اليوم، بغضّ النظر عن الأرباح والخسائر، توغل في الثورات الشعبية. أمّا مسارح التغيير فشاهدة على حدوث معظم الثورات حيث حدثت الانقلابات، فكأنّما هناك ميل شعبي إلى تنظيف التاريخ من إعاقات العسكر، ومن ثمّ استئنافه نظيفاً بالقدر الذي تُتاح فيه النظافة لأفعال التاريخ. هكذا تمرّ الثورة من حيث مرّ الانقلاب، وتستقرّ حيث استقرّ.

وفي تأريخ حَدَثي بدأ الانقلاب العربي مع بكر صدقي في العراق عام 1936، ثمّ مع حسني الزعيم في سوريا عام 1949. لكنّ التأريخ التاريخي يرسم 23 يوليو (تموز) 1952 الناصرية انقلاباً أباً أنجب أبناء كثيرين. عسكريّو اليمن قلّدوا الطريقة الناصريّة مرات عدّة ما بين عبد الله السلاّل في 1962، وعلي عبد الله صالح في 1978. عسكريو سوريا، مستفيدين من ميراثهم الخاصّ مع حسني الزعيم وسامي الحناوي، خصوصاً أديب الشيشكلي، قلّدوا الطريقة إيّاها مع انقلاب «البعث» عام 1963، وهو الانقلاب الذي كان ذا بطن خصب في توليد انقلابات لاحقة توّجها حافظ الأسد في 1970. عسكريّو السودان أعطوا التقليد أساتذته الثلاثة المتعاقبين: إبراهيم عبّود في 1958، وجعفر نميري في 1969، وعمر البشير في 1989. عسكريّو ليبيا، ومن خلال معمر القذافي، استوردوا التقليد عام 1969 من جارهم القريب إلى الشرق، وكانت لهم إضافاتهم النوعية التي لم تخلُ من إيكزوتيكيّة.

تونس والجزائر كانا أعقد قليلاً، لكنّهما لم يخالفا القاعدة العامة في آخر المطاف. في تونس، أحكم الحبيب بورقيبة فصل الجيش عن السياسة، فلم يقم انقلاب عسكريّ. قام انقلاب أمني رعاه زين العابدين بن علي في 1989. في الجزائر، لم تفض «ثورة المليون شهيد»، على صعيد الحريات والكرامة الإنسانيّة، إلى نتائج أفضل مما تفضي إليه الانقلابات عادة. مع هذا، ففي 1965 أضاف هواري بومدين الملح اللازم إلى الطبق الجاهز، فانقلب على رئيسه أحمد بن بلّه. أمّا العراق، في المقابل، وهو من أبرز البلدان الانقلابية، فلم تأت الثورة ردّاً على انقلابه العائد إلى 1968، لقد جاء الردّ من الخارج، غير أنّ أكثرية العراقيين أيّدته ووَالته حينذاك.

وعلى امتداد عقود، راح الانقلابيون يسحقون «أهلهم» ويهينونهم ويخرسونهم ويُفقرونهم، أمّا المادّة التي قايضوا بها فكانت مزاعمَ القضايا المصيرية والانتصارات الكاذبة، فضلاً عن الآباء الكالحين المرفوعين إلى مصاف العبادة. لقد أحلّوا الكذب محلّ الواقع الذي غيّبوه، فجاءت الثورات تستدرج الواقعَ إلى الواقع: حرية وكرامة وخبز وسلم. هذا هو الموضوع. واليوم، في السودان كما في الجزائر، يعود المكبوت غاضباً مرّة أخرى، فكأنّ لسان حال الثورة يقول: فوق كلّ ما صنعه الانقلاب الذي يخجل باسمه، فإنّه سرق اسمي أيضاً.