IMLebanon

الوضع الاقتصادي في لبنان لا تحكمه الأرقام بل فقط السياسات الوطنية

 

المشكلة الاقتصادية في لبنان ليست أرقاماً وإصلاحات هيكلية فحسب بل إنّها أيضا، السياسات الوطنية القائمة، وخاصة المتعلقة بالقضايا الإقليمية والدولية. لبنان لديه إمكانيات هائلة للدفع باقتصاده، لكنه في حجر لا يخفى بل إنّه سيقع قريبا فريسة عقوبات لا يمكنه تحملها إذا استمر العناد.

 

رئيس البلاد رفع شعار المقاومة الاقتصادية فما هي فائدة هذا الشعار الشعبوي الجديد سوى المزيد من عزلة لبنان في نظام العلاقات الاقتصادية المعولمة. أنا لا أفهم كيف يمكن لهذا التحالف بين صاحب العهد وحزب الله أن يخدم مصلحة لبنان. سيأتي اليوم الذي تزول الغشاوة عن عيون بعض الذين يصفقون للعهد لكن لات ساعة الندامة.

 

ثم ما هي هذه العلاقة بين الأحزاب الايديولوجية العلمانية في لبنان وحزب الله. هي تعترف بخلافها العقائدي معه خاصة أن الحزب لا ينفك يؤكد التزامه بولاية الفقيه، غير أن هذه الأحزاب تقول بأن الأولوية تبقى للمواجهة مع «أميركا» أو «الشيطان الأكبر» كما كانت تسمى، قبل أن توافق على التفاوض مع إيران تحت عنوان برنامجها النووي. فعندما قبلت الولايات المتحدة التفاوض مع إيران، وألغت العقوبات الاقتصادية التي كانت قائمة ضدها لم تعد «الشيطان الأكبر». أنا أفهم هذا الأمر بالنظر إلى المصلحة الاقتصادية لإيران، والتي كانت حاسمة في مجرى تلك المفاوضات في حينه، ولكني أتمنى أن يفهم اللبنانيون من الشركاء في ما يسمى الممانعة والمقاومة أو غيرهم ومنهم رئيس الدبلوماسية اللبنانية، هذا الأمر: المصالح الاقتصادية الوطنية لها الأولوية.

 

من الواضح أن العقائد الايديولوجية ما زالت تتحكم بمثل هؤلاء اللبنانيين، في حين أن المسار العالمي اختلف كليا منذ العام 1991 أي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فقد ساد مفهوم العولمة، حيث طغت المصالح الاقتصادية على كل المفاهيم العقائدية. ترى هل إنهم لا يدركون ذلك؟

 

أنا لا اقول بأن علينا الاستسلام لمطالب الولايات المتحدة أو غيرها، وإنما علينا أن نتعاطى بحنكة وذكاء، بحيث لا نخسر حقوقنا لكن نحمي أيضا مصالحنا الوطنية، ولا سيما المصالح الاقتصادية. إسرائيل استفادت كثيراً من شعارات الشعبوية العربية قبل حرب العام 1967 للتمدّد جغرافياً، فلما أدرك العرب أهمية التعاطي المنطقي مع القرار 242 حفظوا حقوقهم، حيث اعترف المجتمع الدولي بأن الأراضي التي ربحتها إسرائيل خلال تلك الحرب هي أراضٍ محتلة.

 

لا أحد يستطيع أن ينفي أنّ ثمّة جوانب في مفاهيمنا الايديولوجية راسخة ومستمرة، لكن ليس لأنها مفاهيم ثورية، بل لأنها مفاهيم حقوقية مستندة إلى مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي. ومثال ذلك حق الشعوب بتقرير المصير والمقاومة ضد الاحتلال الأجنبي للأراضي الوطنية.

 

وأنا أذكر أنّه عند الإعداد لإعلان الذكرى الخمسين للأمم المتحدة عام 1995، برزت جهود حثيثة للنيل من هذا الحق. وقد كانت لهذا الإعلان أهمية بالغة لأنّ غرضه كان تفسير مبادئ ميثاق الأمم المتحدة في إطار النظام الدولي الجديد، لكن رغم ذلك، أمكننا إصدار بيان إلى جانب الإعلان يؤكد عدم المس بهذا الحق، مستفيدين في حينه من حق الفيتو، الذي كان يملكه لبنان مثل كل الدول الأخرى، إذ لم يكن هذا الإعلان ليصدر دون موافقة الجميع.

 

سبع دول فقط أيّدت موقفنا ودعمتنا في جهودنا. ربما أنّه كانت لتلك الدول أهداف متباينة، لكن هاجسي في حينه كان الدفاع عن حق الشعب اللبناني بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب والبقاع الغربي، وكذلك الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير وتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة. فهذا الحق الفلسطيني هو الذي يُبقى قرار الجمعية العامة للامم المتحدة المتعلق بحق العودة للاجئين حيّاً، وبالتالي عدم فرض التوطين في بلدان اللجوء ومنها لبنان.

 

لم نكن نعمل في حينه من فراغ، فقد كانت الدبلوماسية اللبنانية إلى جانب المقاومة الجارية ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، بل كان الشهيد الكبير الرئيس رفيق الحريري يجول العالم ويقود الدبلوماسية اللبنانية لهذا الغرض.

 

ولم يجد المجتمع الدولي ضيراً في حينه من مثل هذا الموقف رغم أنه «أزعج» الولايات المتحدة. فحق الشعوب بمقاومة الاحتلال للأراضي الوطنية يبقى حقا مقدسا. لكن المجتمع الدولي لم يكن يهضم الامتداد الإقليمي للطرف المحلي اللبناني الذي كان يلعب دور المقاومة الناشط (حزب الله) بالنظر إلى ما كان له من امتداد إقليمي معلن. بل إن حزب الله أعلن في حينه، صراحة، أفكاره الايديولوجية بما في ذلك بالنسبة لإقامة دولة إسلامية. وأذكر أن دولة عربية تقدمية كانت تعتبره من المجموعات الإسلامية الإرهابية إذ كانت في ذلك الحين في حالة حرب مع جماعات إسلامية فيها، غير أن نشاط الحزب كمقاوم للاحتلال الإسرائيلي في لبنان وغلبة البُعد الحقوقي القانوني على هذا الدور، وكذلك الدعم الإسلامي المسيحي في لبنان لهذا الدور، والوهن الذي كان ما زال قائما في مؤسّسة الجيش، جعل المجتمع الدولي، بل ومجموعة كبيرة من اللبنانيين تصمت عن تلك الإعلانات العقائدية، رغم أخطارها المعلومة على الوحدة الوطنية في لبنان والمصالح السياسية للعديد من دول المنطقة وخارجها.

 

نجحنا في الأمم المتحدة في مسعانا للحفاظ على حقنا المشروع بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وقد نزل المجتمع الدولي عند رغبتنا لأنّنا كنا نستند إلى قواعد واضحة وجلية في القانون الدولي، ولأنّه كان يدرك أهمية احترام مثل هذه القواعد على متطلّبات الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. لكن وللأسف فإنّ القيادات السياسية المعنية في لبنان، ومعظمها ما زال في موقع السلطة حتى هذا الحين، لم تفهم أن انتصارنا الدبلوماسي في حينه استند إلى عدالة مطالبنا المبنية على قاعدة قانونية، وأنه إذا جرى الإخلال بهذه القواعد القانونية فسوف نتعثّر، بل إنّهم لم يشعروا أصلا بهذا النصر الدبلوماسي، ولم يهتموا له، فقد ساد الظن وما زال، بأنّ الكلمة الفصل في المواقف المتصلة بحقوقنا يبقى للسلاح.

 

لقد ساد الشعار الرنّان عن توازن القوى مع إسرائيل، فما معنى هذا الشعار؟.. أنا أفسّر الشعار بأننا لن نتحرك عسكريا ضد إسرائيل، إذا لم تتحرك ضدنا. وبمعنى آخر فإننا نترك لإسرائيل ما أخذته بالقوة المسلحة، ونطرب لأنّها لن تستطيع احتلال المزيد.

 

لطالما سمعنا ونسمع شعارا يقول بأنّ ما أُخِذَ بالقوة لا يُسترد بغير القوة، لكن تبيّن بعد إعلان الولايات المتحدة قبولها ضم إسرائيل للقدس والجولان أن شعار التوازن يغمض العين عن هذا الشعار بل عن كل الحقوق المسلوبة، وتبين أن التباهي بالقوة ليس سوى وهما، فبدلا من المبادرة إلى الرد برسالة «مقاومة» لذلك الإجراء الاميركي، قام الحكم في سوريا بإعادة جثة جندي إسرائيلي إلى إسرائيل، ما شكّل «هدية» إضافية تضاف إلى هدية الولايات المتحدة للنظام الإسرائيلي أمام الانتخابات التي عادت بنتنياهو إلى الحكم. ربما لم تكن تلك الخطوة رغبة الحكم في سوريا بل رغبة روسيا التي تتحكّم اليوم بقرارات سوريا، لكن هذا القرار أثبتت بكل الأحوال، أن الحكم هناك لم يعد قادرا على احترام شعاراته. وأثبت أكثر كم أننا دمى في لعبة الأمم.

 

في ظل هذا الواقع نشير إلى أنّ معظم دول المجتمع الدولي الحضاري عارضت خطوة الولايات المتحدة كما كانت عارضت خطوة إسرائيل من قبل، لكن ليس لأن عدد الصواريخ لدينا هو الذي أخافها بل لأنها تعتبرالجولان والقدس أراض محتلة بموجب قرارات الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي. وهذا يؤكد ما قلناه مرارا بضرورة التعاطي مع حقوقنا من منطلقات القواعد القانونية، وليس من خلال عدد الصواريخ التي نملكها.

 

ضم القدس والجولان لن يكون له مفعول نهائي إذا أحسن أصحاب القضية عرض حقوقهم أمام المجتمع الدولي. ميزان القوى لن يستمر على حاله، والقوة لا تعني حصرا قوة السلاح. كما لا تعني حصرا قوة السند القانوني. القوة الحقيقية تعني الجمع بين كل القدرات الوطنية للدفاع عن الحقوق المشروعة. فمن جهة، هناك أولا قوة الحق الذي يجب دعمه بالمطالبة المستمرة والملحة أمام المجتمع الدولي فما ضاع حق خلفه مطالب. هذا إضافة أيضا إلى قوة المنطق والقدرة الذكية في تقديم القضايا الوطنية. إسرائيل لم تصبح دولة معترف بها في العالم بسبب قوة سلاح الهاغانا وغيرها من المجموعات الإرهابية الصهيونية التي فتكت بالفلسطينيين العام 1948، بل بسبب القرار الأممي 141 الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في حينه وفرض تقسيم فلسطين.

 

من جهة ثانية، هناك القوة المسلحة، وقد كانت لدينا القدرة على إقامة استراتيجية دفاعية تمنح قوة الحق القانوني الدعم المسلح المناسب وفقا للمفاهيم القانونية. وأملي أن نتمكن من تحقيق هذا الأمر مما يساهم في تعزيز وحدتنا الوطنية وموقعنا الدولي. وقد كتبت خلال العام 2013 كتابا إلى سيادة الأمين العام لحزب الله من خلال وزارة الخارجية المعنية بالحفاظ على الحضور الدبلوماسي اللبناني في العالم، أُشعِره فيها بهذه النظرة. لكن بعض المعنيين في تلك الوزارة رفضوا إيداع هذه الرسالة مرجعها، معتبرينها قراءة سياسية، في حين أنها كانت قراءة حقوقية لا أكثر. وقد رأينا التزاما مهما من حزب الله بالقرار 1701 بعد الحرب العبثية عام 2006 فاستبشرنا خيرا. ثم جاء إعلان واشنطن عام 2007 بشأن لبنان وإمكانية حياده فقلنا أن الفرصة عادت أخيرا إلى وطننا. ثم قبل الحزب وكل الآخرين إعلان بعبدا فاستبشرنا بداية تغيير إيجابي في السياسات الوطنية في لبنان ستساهم بدفع الازدهار الاقتصادي في البلاد.

 

لكن سرعان ما رأينا كل ذلك يذهب أدراج الرياح ليس لأن الحزب أطاح بكل هذه الفرص فقط، بل لأن منظّري تيار الإصلاح والتغيير قاموا بتقديم التغطية المسيحية لدور الحزب «المقاوم» فخرج لبنان مجددا من دائرة الاهتمام الاقتصادي الدولي.

 

قبول حزب الله بالقرار 1701 والتزامه به أنهى عمليا شعار «المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي». سقط الرابط القائم في هذا الشعار لكن ظلت اللازمة اَي كلمة «المقاومة»، فصارت هذه اللازمة قميصا فضفاضا يلبسه «الممانعون» وفقا لمصالحهم الأيديولوجية والسياسية. وعليه كان سهلاً قنص الحزب وطمس مقاومته التاريخية للاحتلال الإسرائيلي في لبنان. وما لم يكن ممكنا في حينه صار من بعد ذلك ممكنا حيث أن المجتمع الدولي بات يمارس عمليا، التعاطي مع لبنان من خلال اللائحة الأميركية بشأن الإرهاب التي تضمه إضافة إلى أكثر من 30 دولة. وهذه اللائحة تشمل دولا وصف بعضها بأنها دول راعية للإرهاب ووصفت أخرى بأنها تقدم الدعم للاٍرهاب ووصفت مجموعة ثالثة ومنها لبنان، بأنها تأوي مجموعات إرهابية.

 

الجدل بلغة الأرقام والبيانات المتبادلة عن الفساد والفاسدين لا يكفي. الفساد في لبنان جزء من اللعبة السياسية المتمادية ومن خطة النيل من هذا الوطن. لنتحدث عن المشكلة الأساسية ألا وهي كيف يمكن أن نخرج من الحجر الاقتصادي بسبب هذه اللائحة. معظم الدول تصدر تنبيهات لمواطنيها بعدم السفر الى لبنان فكيف سيكون هناك استثمار اقتصادي فيه؟ وكيف سيأتي الاستثمار بعد إعلان رئيس البلاد من روسيا عن «المقاومة الاقتصادية»؟ مثل هذا الواقع جعل لبنان خارج الاهتمام الاقتصادي لرجال الأعمال بما في ذلك المغتربين اللبنانيين أنفسهم. رأس المال جبان ويخاف فكيف نأمل من حلول اقتصادية؟

 

كتبتُ في حينه إلى رئيس الدبلوماسية اللبنانية منبها إلى كل ذلك، ولفتُّ إلى المخاطر الاقتصاديةً التي تتهدد لبنان نتيجة سياسة التغاضي عن دفع لبنان إلى محور من المحاور المتنازعة في المنطقة. وقدمت أمثلة حية عن ممارسات دولية بهذا الصدد لكنه لم يستمع لي فهو تعاطى مع «المقاومة» من خلال مصالحه السياسية.

 

أنا لا أريد أن يُنظر الى مقالتي من موقع التهويل بل على العكس فهي مكتوبة كما كنتُ أكتب دائما من موقع التحذير. أنا آمل أن يسود حوار منطقي بيننا لما فيه مصلحتنا جميعا. نحن في باخرة واحدة إنْ غرقنا غرقنا جميعا.

 

أوستن في 23 نيسان 2019