IMLebanon

مهزلة شعار محاربة الفساد في لبنان

           

منذ تسلمه مهمات رئاسة الجمهورية، طرح الرئيس ميشال عون شعار محاربة الفساد، واعتبر تحقيقه أهم إنجازات العهد. وعلى المنوال نفسه، تسلسلت التصريحات من سائر المسؤولين المنددين بالفساد، والمشمرين عن سواعدهم لمحاربته. تصاعد الحديث حول هذا الموضوع بعد إجراء الانتخابات النيابية الأخيرة، حيث اعتبرها الرئيس البداية الحقيقية لعهده، وأعاد التشديد عليها. إذا كان الداعون إلى محاربة الفساد يقفون في رأس القائمة المشبوهة، فإن مناقشة هذا الموضوع يتجاوز الأشخاص، كما يتجاوز النظر إليه أخلاقياً.

 

 

فالفساد في لبنان الذي ينتشر في جميع القطاعات، وعلى المستويات السياسية والاقتصادية والإدارية، من أعلى الهرم إلى أسفله، له أساس في طبيعة النظام السياسي الطائفي. يقوم هذا النظام على محاصصة طائفية ومذهبية دقيقة، بين الطوائف والمذاهب. تكرّست هذه المحاصصة في اتفاق الطائف لعام 1989، وتحولت قيداً على أي إصلاح للنظام السياسي في البلد. جرت ترجمة المحاصصة عبر تحول البلد إلى مجموعة إقطاعات تابعة لكل طائفة، ترفض خلالها التدخل في شؤونها من الطوائف الأخرى، وتستبيح البلد لمصلحة المتنفذين فيها. وصل البلد إلى حالة من انحلال الدولة، التي تمثل المساحة المشتركة للمواطنين، لأن الطوائف والمذاهب زحفت على هذا المشترك وألحقته بها. لم تعد قرارات الدولة نافذة بمجرد اتخاذها، ولا بات بديهياً تنفيذ الأجهزة القضائية والأمنية هذه القرارات. فالتنفيذ يجب أن يكون بالتوافق مع قوى الطوائف والمذاهب، التي تقرر ما هو مسموح وما هو ممنوع. من الطبيعي في هذه الحال من انحلال الدولة، أن تسود المحسوبيات والزبائنية، والالتصاق بزعماء الطوائف والمذاهب الذين يشكلون الضمانة والحصانة لأبناء طوائفهم وليس الدولة. والأهم من كل ذلك، سيادة منطق النهب والإفادة من الفرص التي قد لا تأتي مجدداً، إذ يصبح المواطن أسير هذا الفساد، ولا مانع من المشاركة فيه إذا ما استطاع لذلك سبيلاً. باتت قيم النزاهة والمصلحة العامة موضع سخرية لمن لا يزال يؤمن بها أو يدعو إليها. إنه الانحطاط اللبناني في أعلى مراحله.

 

إن تعداد فضائح الفساد في هذا العهد وفي سابقه يمكن لها أن تملأ المجلدات. يمكن التوقف عند بعضها ولا سيما ملف الكهرباء. يعاني البلد من انقطاع في الكهرباء يعود إلى زمن الحرب الأهلية. لكن الحرب توقفت منذ ثلاثة عقود، فيما معضلة التقنين لاتزال قائمة. على امتداد السنوات الماضية، أدرك أهل الطوائف أهمية قطاع الكهرباء وما يمكن أن يشكل من مصدر مالي لجيوبهم. كانت شركة الكهرباء من القطاعات التي تؤمّن وفراً كبيراً لمصلحة الدولة، فإذا بهذا القطاع يتحول إلى العبء الأساسي التي تنوء تحته مالية الدولة، بحيث بات القطاع المصدر الرئيسي لزيادة الدين العام. فشلت كل الحكومات المتعاقبة في حل معضلة انقطاع الكهرباء، لأنها جميعها كانت غارقة في نهب القطاع، ومنع إيصال الكهرباء. تنازعت حول بناء المعامل، فكل طائفة تريدها في مناطقها، ولا مانع من تعطيلها إذا لم يتحقق مطلبها. وكل طائفة تريد حصتها وفرض الخوات على المستثمرين الذين يريدون البناء. هكذا تعطلت مشاريع البناء تحت جشع القوى النافذة في كل منطقة.

 

تفتقت مخيلة القوى السياسية عن حل يقوم على استحضار البواخر من تركيا لتأمين قسم من الكهرباء. اندلع الصراع حول هذه البواخر منذ سنوات ولم يتوقف حتى الآن. ليس خافياً أن الصراع بين القوى الطائفية لا يعود إلى مسألة من يريد تأمين الكهرباء لمنطقته أكثر من الآخر. الصراع مندلع حول أن هذه البواخر أتت نتيجة صفقات، لم يكن العهد الحالي بعيداً عنها، خصوصاً في بنود التسوية الرئاسية غير المعلنة. الصراع هنا على الحصة التي يأخذها هذا الطرف، فيما الآخر محروم منها. وهذه صفقات ضالعت فيها قوى سياسية من أعلى الهرم. إلى جانب البواخر، انتشرت في البلد المولدات الكهربائية التي تغطي النقص من كهرباء الدولة. يدفع المواطن مبالغ باهظة لأصحاب المولدات. تقول إحدى الصحف الأميركية إن الاستثمار في المولدات يصل إلى حدود بليوني دولار، وهو رقم له دلالته إذا ما حاولت الدولة تأمين الكهرباء في شكل كامل. ظهر مؤخراً أن كل طائفة لها مولداتها وحماتها من النواب والوزراء، إذ ستشكل هذه القضية معضلة، يصعب على القوى الطائفية التساهل في إنهائها. من الأمور المسخرة التي برزت في الأيام القليلة الماضية، أن الحكومة أتت بباخرة تركية اسمها «عائشة» لوضعها في منطقة الزهراني الجنوبية لتغطية نقص في الكهرباء. فجأة اندلعت «انتفاضة» شعبية ضد اسم الباخرة، فبات اسمها «إسراء» بدلاً من «عائشة». لكن «الانتفاضة» كان وراءها أصحاب المولدات في المنطقة، لأن تأمين الكهرباء منها سيؤثر سلباً في مداخيلهم، فرفضوا رسوّها في المنطقة. لم يكن أصحاب المولدات هم المنتفضين ضد الباخرة فقط، بل قاد هذه الانتفاضة نواب من الذين انتخبهم الشعب مؤخراً. هكذا اضطرت الحكومة إلى نقل الباخرة إلى منطقة كسروان. لقد ظهر من هذه الحادثة البسيطة أن الطوائف لها مولداتها التي لا تتهاون في الدفاع عن وجودها، ضد أبنائها المعوزين.

 

هذا غيض من فيض، فالفساد يضرب جميع المؤسسات والقطاعات، قضائية وأمنية واقتصادية وخدماتية. والفاسدون والمفسدون هم القوى الحاكمة راهناً وسابقاً. ورافعو شعار محاربة الفساد يقفون في رأس سلم الفاسدين، على قول مثل لبناني «حاميها حراميها». فلا ينخدعنّ أحد بهذا الشعار، فالقوى التي ستتولى تنفيذه هي نفسها الكفيلة بإجهاضه.