IMLebanon

مشروع تسوية كاملة متكاملة

 

 

إرتفاع منسوب التوتر في الشرق الأوسط إثر استهداف القاعدة العسكرية الاميركية شمال شرق الأردن، والذي أدى الى سقوط ثلاثة جنود أميركيين إضافة الى عشرات الجرحى، لا يعني أن المنطقة ستنزلق بسرعة في اتجاه توسّع جنون الحرب، لا بل على العكس فإنّ ما حصل يحمل مؤشرات الى أن إقفال باب الحرب في غزة أصبح قريباً وأن الكواليس تعبق بالمفاوضات والتسويات على مستوى المنطقة بكاملها.

فمن المفترض أن يزور وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن المنطقة للمرة الخامسة منذ اندلاع حرب غزة، أي خلال أربعة أشهر فقط. ويأتي بلينكن بعد اجتماع باريس والذي يمهّد لإعلان وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في غزة، وما بات يعرف بـ«اليوم التالي». لكن ثمة ما هو أبعد وأعمق ويتعلّق باليوم التالي على مستوى المنطقة ككل. ذلك أن قنوات التواصل الجانبية والتي بقيت تعمل بنشاط وسرية خلال المرحلة الماضية، شَرعت في وضع أسس التفاهم حول تسوية كاملة متكاملة على صعيد المنطقة.

لذلك كان التركيز والتمحيض في حادثة استهداف القاعدة الاميركية في الأردن. والسؤال الأبرز كان ما إذا كان هنالك من رسائل اعتراض على المفاوضات الدائرة في الكواليس أم أنّ ما حصل يدخل في إطار سوء التقدير الميداني؟
وكان لافتاً جداً هذا التكتم ولوقت طويل نسبياً الذي أخذته السلطات الأميركية قبل الكشف عن العملية وهو ما فسّر بأنه للتحقق والاستفهام، وأيضا ذلك التمهّل قبل تحديد نوعية الأهداف التي سيجري قصفها كرد على استهداف القاعدة الاميركية وهو ما فسّر بأنه لانتقاء الأهداف والمعنى العسكري لا السياسي الذي ستحمله. ولذلك معناه المُعبّر.
وعلى الأرجح قد تكون واشنطن أرادت التأكد ممّا إذا كانت هنالك رسائل سياسية إيرانية إعتراضية للبناء على ذلك. وبَدا لاحقاً أنه تم وضع ما حصل في إطار الأخطاء الميدانية من جهة وسوء التقدير من جهة أخرى. فقبل الهجوم على قاعدة الأردن سجّل نحو 160 هجوماً على قواعد وأهداف أميركية في سوريا والعراق منذ اندلاع الحرب في غزة. وكانت هذه الهجمات مدروسة بدقة لناحية عدم تسبّبها بسقوط إصابات بشرية.
ولا بد من أن تكون قناة التواصل عبر سلطنة عمان أدت دورها في توضيح الموقف، خصوصا أن طهران أعلنت منذ البداية أن لا علاقة لها بالهجوم، واستتبعَت ذلك بما تَم تناقله حول طلب الحرس الثوري الايراني من المجموعات التي تدور في فلكه في العراق وسوريا وَقف التعرّض للمواقع الأميركية، وربما المقصود قطع الطريق على أي خروقات محتملة من جانب أطراف لا تريد نجاح مشاريع التسوية المطروحة. فما الذي يمنع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من تنفيذ عملية سرية مشابهة وهي المعروفة بميولها اليمينية؟ ألم تَغتل هذه الأجهزة رئيس وزرائها اسحق رابين لإفشال مشاريع التسوية؟ وفي المقابل فإن الرئيس الأميركي، المحشور داخليا والمتهم بالضعف ما يجعله مصمماً أكثر على الرد، حمّل إيران فقط مسؤولية تزويد المهاجمين بالأسلحة. ما يعني أنها لم توجه رسائل سياسية من خلال الهجوم. هذا في الوقت الذي سعى فيه الحزب الجمهوري لدفع بايدن الى التورط في الرد على إيران، وبالتالي الانزلاق في رمال متحركة تؤدي الى سقوط جنود أميركيين وفي الوقت نفسه الى حسم المعركة الرئاسية باكراً.

وقد يكون غلاة الجمهوريين يصوّبون في اتجاه أبعد، والمقصود هنا الاتفاق الكبير الجاري صَوغه في المنطقة.
ففي باريس تم على ما يبدو إرساء قواعد وقف اطلاق النار في غزة. والأهم أنّ كبير مستشاري الشرق الأوسط في البيت الأبيض بريت ماكغورك، والذي يحظى باحترام الجمهوريين أيضا، قد نجح في وضع الإطار المطلوب لتسوية كاملة متكاملة في المنطقة الى جانب إنجاز التسوية في غزة. وهذا ما سيولّد أعداء كثراً بدءاً من اليمين الأسرائيلي المتطرف ووصولاً الى رافضي التسويات في الساحات العربية المشتعلة.
ووفق أوساط ديبلوماسية أوروبية معنية فإن مشروع ماكغورك يقوم على إبقاء الرقابة الأمنية الإسرائيلية الصارمة في غزة، ما سيدفع بكثيرين الى النزوح الى سيناء حيث سيجري تأمينهم من جانب السلطات المصرية. وسيجري منح مصر مساعدات ضخمة وعاجلة لاقتصادها المتداعي مقابل تعاونها. وفي الداخل الفلسطيني ستتم إعادة صياغة السلطة الفلسطينية لتتولى المسؤولية وفق صيغة جديدة في الضفة الغربية وما تبقّى من غزة. وأما بالنسبة الى فلسطينيي الشتات فيتم تثبيتهم في أماكن وجودهم، وهو ما يضع علامات استفهام حول وقف تمويل وكالة «الأونروا» في هذا التوقيت. واستتباعاً، يتم استكمال خطوات التطبيع بين السعودية وإسرائيل بعد إنجاز الحل مع الفلسطينيين، وهو ما كان قد صرّح به وزير الخارجية السعودي.

أما في اليمن فيتم الدفع في اتجاه إرساء مصالحة شاملة وترتيب حكومة وحدة وطنية بعدما تم تجاوز فكرة تقسيم اليمن الى قسمين شمالي وجنوبي. لكن المعلومات تشير الى وجود نقاط عدة ما تزال عالقة مع إيران، وأهمها موضوع النفوذ على باب المندب، وهو ما يفسّر المواجهات البحرية الحاصلة والتي هي أشبه بالتفاوض بلغة النار. وطرح هنا إمكانية إلحاق السودان بالحل الشامل للتعويض على دولة الإمارات خسارتها في اليمن، لكن ذلك لم يحسم.
أما في العراق فإنّ مبدأ انسحاب القوات الأميركية قائم وهو ما يعني انسحابا أميركيا من سوريا أيضا، على أن يسبق ذلك تفاهم يشمل وضع الأكراد والمكوّن السني والقوى التي ستعمد الى ملء الفراغ الناتج من الانسحاب الاميركي وترتيب السلطة.
أما في سوريا فمن حيث المبدأ ستتولى روسيا ملء الفراغ الأميركي وستسطرة على المنطقة النفطية مقابل تفاهمات مع واشنطن داخل سوريا وخارجها. على أن تتولى روسيا ضمان ضبط النفوذ الإيراني ضمن دائرة محددة. وهذه النقطة تلقى رفضاً إيرانياً. ويتزامن هذا الكلام مع البدء بمشروع إعادة ترتيب الاجهزة الأمنية وفق صيغة جديدة وبرعاية روسيا. وكذلك إنسحاب الجيش التركي ولكن مع عدم التعرض للنفوذ التركي. أي عدم اجتياح إدلب، لا بل إقرار مبدأ الإدارة الذاتية والذي يشمل السويداء في الجنوب ومناطق أخرى ولكن تحت سقف الدولة وفي إطار مؤسساتها. ولفت في هذا الإطار رفض أهالي السويداء للتدخل العسكري الجوي الاردني. وسيتم تطوير المرسوم 107 حول اللامركزية السياسية. أما بالنسبة الى الأكراد فيطالبون بإلابقاء على وحداتهم العسكرية وهو ما ترفضه دمشق وتتمسّك بعودة الأمور الى ما كانت عليه قبل 2011.

ولفت في هذا المجال أيضا إعادة تحريك مسار «أستانة» برعاية روسيا وتجاوز المسارات الأخرى. وبات واضحا الاعتراف ببقاء النظام السوري لكن الى جانب إصلاحات سياسية ودستورية تعطي رئيس الحكومة صلاحيات جدية جديدة، وتمنح المعارضة مقاعد في الحكومة على أن يبقى القراران العسكري والأمني بيد رئيس الجمهورية. أما بالنسبة الى النازحين فتشترط تركيا إعادتهم مع ضمانات بعدم التعرض لهم. ولم يعترض النظام على ذلك شرط إعادة بناء البنية التحتية المدمرة. وسيصل المبعوث الأممي غير بيدرسون الى دمشق أواخر الشهر الجاري، مع الإشارة الى أن سلطنة عمان كانت قد رفضت عقد اجتماعات اللجنة الدستورية على أراضيها ما يعني عدم رضى طهران وأن روسيا باتت تأخذ الملف بيدها.
أما لبنان فيبدو الأقل تعقيدا قياسا على سوريا، وحيث يصبح تطبيق القرار 1701 قابلاً للحصول وفق بنود تفاهمية واضحة وعلى أن يحصل بالتوازي تثبيت الحدود البرية الجنوبية. وكذلك تعزيز وضع الجيش اللبناني بالعديد والعتاد وإيلائه مهمات الرعاية الأمنية في الجنوب وكل لبنان تحت سقف التسوية العريضة، وأن يساعد على إعادة بناء مؤسسات الدولة المنهارة بعد أن يُعاد تكوين السلطة من خلال انتخاب رئيس للجمهورية ووصول رئيس للحكومة يحمل مهمة إنقاذ للاقتصاد وقادر على تأمين مساعدات خارجية. وهنا تبرز أهمية توقيت عودة الخماسية والدور المتقدم للسعودية.
وهذا ما يستوجِب انتظار البيان الختامي للخماسية عندما ستنعقد في السعودية في النصف الثاني من شباط الجاري، والذي سيتأثر بلا شك بمدى تقدّم الورشة الإقليمية الكبيرة، على ان يستعيد لودريان مهمته بأسلوب متجدد.

ولفت في هذا الإطار أيضا وفي عز التحضير للورشة اللبنانية وصول الوفد الأمني ـ الديبلوماسي الفرنسي الى بيروت، والذي يمكث ليومين فقط، للقاء مسؤولين محددين، وهو وفد مشترك من وزارة الخارجية والجيش والمؤسسة الأمنية، وكان سبق له ان زار لبنان منذ نحو شهرين.
لا شك أن المنطقة أمام تحولات كبرى، إلا إذا نجحت «شياطين» العرقلة في وقف المسار، فكل شيء وارد في الشرق الاوسط .