IMLebanon

إرفعوا أيديكُم عن القضاء

 

بالأمس القريب، وبعد مَخاضٍ عسير، وُلدت حكومة الرئيس ميقاتي الثالثة، على وَقْع انهياراتٍ وأزمات، تفاحلت وانفجرت، فيما المواطن اللبناني يَئِن وَجَعا، ولا مَنْ يَستجيب.

ضمّت التشكيلة الحكومية رزمة من الشخصيّات المعروفة منها وأُخرى المجهولة، وباقة من الأخصّائيين وآخرين طارئين، لكنّ النافر فيها أنها ضمّت أكثر من قاضٍ ورئيس محكمة، إضافةً إلى قُضاة مُتقاعدين منذ زمن.

 

فالقاضي المتقاعد يُمكِن ان يُشكِّل إضافةً إلى تشكيلة حكومية أيْنَعَتْ على عَجَلْ. أما بالنسبة إلى القاضي العامِل، فالأمر مُختلِف، وسنأتي على تفصيل ذلك بإسهاب.

فالقضاء مؤسسة مُستقلّة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وسندًا للمادة /20/ من الدستور، فإن السلطة القضائية هي سلطة مستقلّة تتولاّها المحاكم ضمن نظام ينصّ عليه القانون.

 

كذلك، ذَهَبَ المجلس الدستوري في لبنان، وفي قراره الرقم 5/2000 تاريخ 27/6/2000، إلى اعتبار «إستقلال القضاء مبدأ ذو قيمة دستورية».

ونصّت الفقرة «هـ» من مقدمة الدستور، أن النظام اللبناني قائم على مبدأ الفَصْل بين السلطات وتوازنها وتعاونها.

 

فصحيح أن السلطات الدستورية الثلاث يجب أن تعمل بطريقة منفصلة، عملاً بمبدأ الفصل بين السلطات، لكن المفترض والواجب توازنها وتعاونها. والمقصود بالتوازن والتعاون، هو بين السلطتين التشريعية والتنفيذية حصراً، فالسلطة التشريعية تُمارس رقابتها على السلطة التنفيذية، والسلطة التنفيذية تُمارس سلطتها في وَجه السلطة التشريعية، وصولاً إلى إمكانية حلّ مجلس النوّاب، ضمن شروط وحالات مُحدّدة. ولكن لا تعاون على الإطلاق مع السلطة القضائية.

 

فالسلطة التشريعية، كذلك التنفيذية، هي سلطات سياسية بامتياز، تتعاطى الشأن العام، وهموم المواطن وشجونه. فيما السلطة القضائية لا تتعاطى السياسة، إنما إحقاق الحق، وتطبيق القوانين والأنظمة المرعية الإجراء.

 

واستناداً إلى ما تقدّم. يقتضي على كل قاض ينخرط في السلك القضائي أن يتمتّع بالإستقلالية الكاملة، وأن يتعالى عن كافة المُغرَيات والتقديمات، وأن يتّبع سلوكا أخلاقيا صارما، وأن ينتهِج المسافات في علاقاته، وأن يُحافِظ على نزاهته واستقامته، وأن يتشبّث بعدم قبول أيّ مُداخلات أو وَساطات أو اتّصالات أو تمنيّات أو تعليمات أو…

 

فالقاضي يختلف في نَمَط عيشه عن النائب أو الوزير، الذي يُشارك أبناء بيئته في أفراحهم وأتراحهم، فيما القاضي يعيش في صومعته، بين كتبه ومراجعه حصراً.

ما يُفيد، أنه يقتضي أن يكون للمجلس النيابي رجالاته، وللحكومات روّادها، فيما يُفترض أن نُحافظ للقضاء على أبطاله، بعيداً عن السياسة ومُغرياتها الزائلة.

 

حتى أن المادة /50/ من قانون تنظيم القضاء العدلي، الصادر في المرسوم الإشتراعي الرقم 150/1983، قد اشترطت على القاضي والذي يرغب في ترشيح نفسه للإنتخابات النيابية والبلدية، أن يكون قد استقال من القضاء، من سنة على الأقّل، تحت طائلة ردّ طلب ترشيحه. ولا يجوز بعد ذلك أن يُعيّن في أيّ وظيفة قضائية.

 

وفي الخُلاصة، وحتى نتمكّن من تحييد القضاء عن المطبّات السياسية، علينا أن نحمي قُضاتنا ونُحصّنهم، ونتشدّد بوجوب الحفاظ على استقلالية القضاء وعِفّته.

أمّا ما جرى، إبّان ولاية الرئيس الراحل الياس سركيس، بدأت سابِقة تعيين قُضاة عاملين في الوزارات، وتوقّفت في عهد الرئيس أمين الجمّيل، لتعود مع الرئيسين الياس الهراوي وإميل لحّود.

 

واستند القُضاة المُعيّنون في الحكومات كَوزراء، إلى نصّ المادة /51/ من نظام التقاعد والصرف من الخدمة (الصادر بالمرسوم الإشتراعي الرقم 47/1983) التي تحفظ (للقاضي الوزير) وظيفته بعد خروجه من الوزارة، وتحفظ له حقوقه، شرط صدور مرسوم بذلك عن مجلس الوزراء.

 

وَكُلُّنا نذكر، حين عُيّن النائب العام التمييزي القاضي عدنان عضّوم وزيرًا للعدل عام 2004 إبّان ولاية الرئيس إميل لحّود، صدر مرسوم في مجلس الوزراء، حفظ له موقعه ووظيفته وحقوقه كاملة.

 

وفي الخُلاصة، حرّم قانون تنظيم القضاء العدلي على القاضي الترشُّح للانتخابات النيابية والبلدية، لكنه غَفَلَ عن موضوع تعيينه كَوزير، فاستفاد بعض القضاة من ذلك، مُستندين إلى نصّ المادة /51/ من نظام التقاعد والصَرْف من الخدمة.

 

أمّا اليوم، ومع ولادة الحكومة الجديدة، وتضمُّنها إسمَي القاضيين «القاضي بسّام مولوي» (وزيراً للداخلية والبلديات) و«القاضي محمد مُرتضى» (وزيراً للثقافة)، يكون القضاء أوّلاً قد خسر قاضيين مشهوداً لهما بالعِلم والكفاية والعِفّة والنزاهة. إضافةً إلى أن الأمر يطرح أكثر من علامة استفهام:

 

• ألا يُدرِك الساسة انّ اختيار وزراء من السلك القضائي يتعارض مع مبدأ فصل السلطات؟

• ألا يُدرِك الساسة أنّ ذلك سيَدفَع بعض القُضاة مُستقبلاً، ومن خلال مواقعهم، إلى تقديم أوراق اعتمادهم لِمَرجعيّاتهم، على حساب حقوق الناس؟

• أَلا يُدرِك الساسة أن القاضي، والذي سَيعيَّن وزيرًا، سيتعرّض للتجريح والتقييم والإستهداف السياسي و… فكيف يُمكِن له أن يعود لِيَجلس على قَوْسِه، ولِيَحكُم باسم الشعب اللبناني؟

 

فَرِسالتي اليوم موجّهة إلى رئيس لجنة الإدارة والعدل، والمؤتمَن على استقلالية القضاء. مُنبِّهاً إلى ضرورة سدّ هذه الثغرة المُتمثّلة بالإجازة للقُضاة العاملين أن يكونوا وزراء في حكومات سياسية. وذلك من خلال اقتراح القانون والذي تدرسه لجنة الإدارة والعدل في المجلس النيابي.

 

لا يجوز أن نسمح لِقاضٍ طموح أن يُقايض على حقوق الناس.

لا يجوز أن نسمح لِقاضٍ وزير أن يعود إلى وظيفته حَكَماً، بعد أن كان خَصما سياسيا وَطَرَفا حِزبيّاً.

 

فإما المَنع المُطْلَق من خلال القانون، وإلاّ لا عَودة له إلى قَوْس العدالة.

ثِقتنا مُطلقة برئيس لجنة الإدارة والعدل، الحامي للحقوق والحريص على استقلالية القضاء.

 

وكلّ الاحترام إلى القاضيين المُعيّنين في الحكومة.

 

أمّا مُطالبتنا مُختَصرة، بوجوب إبعاد القضاء عن الدولة، وذلك مردُّه إلى خوفنا من أنّ انتهاج هذا المسار سيؤدّي إلى نهاية الدولة. مُردّدين مع المؤرِّخ التونسي، العالم الإجتماعي «إبن خلدون» قوله:

«فساد القضاء يُفضي إلى نهاية الدولة».