لا شكّ أنّ اختراعات و»إبداعات» الطبقة السياسية، أو بعضها، لا مثيل لها بين الأمم. فقد «أغدقت» القاموس السياسي بمفاهيم وسلوكيات، شوّهت التجربة الديمقراطية التي تميّز بها لبنان كنموذج ناجح إلى حدّ ما، مقارنة مع الأنظمة السياسية المحيطة به، فتملّكت المجلس النيابي المُنتخب بأوراق حملت أسماء نوّابه، ذهنية هي أقرب إلى العشائرية، حيث الخلافات والنزاعات تُعالَج باتفاق زعمائها عوضاً عن اللجوء إلى الأصول الدستورية وبديهيات العمل الديمقراطي المرتكز على الإنتخابات كآلية وصول للسلطة وتجديدها. هكذا أصبحت الورقة البيضاء نهجاً معتمداً من بعض الكتل بهدف التعطيل، كأنها تريد استبدال مصطلح «الإنتخابات الرئاسية» بـ»التفاهمات الرئاسية». وأخطر ما في اللعبة السياسة هو تزوير مفاهيمها واستخدام أدواتها في غير مكانها. فهل انتصرت ورقة النوّاب البيضاء على الديمقراطية؟ أم هي حقّ من حقوق النوّاب المشروعة أسوة بالمقترعين في الإنتخابات النيابية؟
للإجابة حول هذه الإشكالية، لا بدّ من معرفة رأي أهل العلم والإختصاص، فكيف يردّ عضو المجلس الدستوري السابق والأستاذ الجامعي البروفسور أنطوان مسرّة على شروحات النوّاب وتبريراتهم.
بداية، لا بدّ من الإشارة إلى أن الورقة البيضاء رافقت الإنتخابات العامّة على أنواعها في الدول الديمقراطية الحديثة منذ القرن التاسع عشر، وقامت الأنظمة في مسار تطوّرها بتحديدها والإعتراف بها كأصوات «صحيحة» وفصلها عن الأوراق الملغاة، ومنها لبنان الذي أقرّ بوجودها واحتسابها ضمن الحاصل الإنتخابي (فقط).
وفي اتصال من «نداء الوطن»، لفت مسرّة إلى أنّ «الورقة البيضاء في الإنتخابات العامة لها صفة تعبيريّة برفض اللوائح والمرشّحين والوضع السياسي القائم، أمّا في المجلس النيابي المجتمع بحالة الضرورة القصوى من أجل انتخاب رأس الدولة، تُشير الورقة البيضاء إلى تقاعس النواب عن القيام بواجباتهم ودورهم الدستوري والبرلماني، فلا يجوز الخلط بين حالتي الإنتخاب (النيابية والرئاسية) بإضفاء سمة الديمقراطية على حقّ النوّاب في التعطيل عبر الورقة البيضاء. هذا تلاعب ومخادعة، لا بل خيانة عظمى للدستور ووظيفة النوّاب».
وشدّد على أنّه «في الأنظمة الجمهورية البرلمانية، حيث يتشكّل المجلس من هيئة ناخبة، لا يحقّ للنائب الإقتراع بورقة بيضاء، فالديمقراطية لا تعني تعطيل الحياة السياسية وعدم انتظام المؤسسات الدستورية واستمرار الفراغ الرئاسي».
وفي تعليقه على منطق بعض النواب باعتماد الورقة البيضاء من أجل الحوار والإتفاق حول اسم الرئيس وهويّته، قال: «إن الإتفاق على حساب الإنتخاب هو بدعة ومضيعة الوقت وضرب لأبسط قواعد السلطة التشريعية المتمثّلة بالبرلمان الذي يقع على مسؤوليته وحده انتخاب رئيس للجمهورية».
وعن تسجيل النواب اعتراضهم على الواقع السياسي أو الأسماء المطروحة للرئاسة عبر الورقة البيضاء، سأل: «هل يُعقل أنه في الجمهورية اللبنانية، لا يوجد أيّ مرشّح واحد يستحقّ وضع اسمه في الصندوق؟»، وكرر موقفه أنّ «المنطق المعتمد من قبل المقترعين في الإنتخابات النيابية لا يصحّ في الإنتخابات الرئاسية».
وعمّا إذا كانت الورقة البيضاء معتمدة في عدد من الدول، أوضح مسرّة أنّ الأنظمة السياسية التي تفرض على المرشّحين تقديم أوراقهم ومستنداتهم بشكل رسمي إلى الدوائر المختصّة كالولايات المتّحدة الأميركية وفرنسا وغيرها من الدول، يحقّ للنوّاب أو المواطنين المقترعين (حسب نظام انتخاب الرئيس إذا كان مباشراً من الشعب أو عبر ممثّليه) أن يصوّتوا بورقة بيضاء إعتراضاً على هويّة المرشّحين المحدّدين، على عكس النظام اللبناني الذي لا يفرض على مرشّحي الرئاسة تقديم ترشيحاتهم ولا حتّى الإعلان عنها، حيث العملية مفتوحة لكلّ مرشّح مستوفياً الشروط القانونية».
ومع دخول الفراغ الرئاسي كأحد أقطاب اللعبة السياسية والإستسلام له كأمر واقع، هل سيؤدي مع مرور الوقت، إلى إثارة الشكوك حول تمكّن النظام السياسي من الحفاظ على بقائه؟ يؤكّد الخبير الدستوري أن «العلّة لا تكمن في النظام السياسي اللبناني ولا بدستوره غير المطبّق أساساً، لأننا في بلد غير مكتمل السيادة، وعندما تكون الدولة محتلّة، لن ينتظم عمل المؤسسات، حتّى لو تبدّلت الدساتير وأنظمتها، فذهنية الإلغاء والإحتلال تتعارض مع منطق دولة القانون. فلنُطبّق الدستور أولاً ونلتزم بأحكامه من دون خبث وغشّ».