IMLebanon

من زمن السلاطين إلى زمن المسلسلات: كيف تسلّلت العادات التركية إلى مجتمعنا؟

 

الشوارب والقهوة والبخشيش

 

 

بعد أن غاب الحضور التركي لأكثر من مئة عام وكاد اللبنانيون ومحيطهم العربي ينسون تأثير أربعة قرون من الحكم العثماني عليهم، عادت تركيا لتدخل البيوت العربية من جديد، لا عبر السياسة والجغرافيا أو حتى الذاكرة التاريخية بل عبر الدراما. فالمسلسلات التركية المدبلجة أعادت إحياء عادات وتقاليد اجتماعية مألوفة وأدخلت بعض العادات الجديدة التي كانت غريبة عن مجتمعنا اللبناني. فهل هي صدفة أن نتأثر مجدّدًا بالعادات التركية؟ أم أنّ هناك جذورًا مشتركة تجعل هذا التلاقي طبيعيًّا ومألوفًا؟

 

لا منزل في لبنان اليوم لم يشاهد ولو مرّة واحدة مسلسلًا تركيًّا عاش معه لأشهر وتابع عادات شخصياته وأسلوب عيشهم. حتى اللهجة السورية باتت محبّبة كونها لشخصيات تركية تعبّر عن أحداث من قلب المجتمع التركي. هذا التقارب الثقافي والفني والاجتماعي بين الأتراك والعرب ليس وليد اليوم بل يستمدّ جذوره من تاريخ مشترك ترك بصماته الواضحة على نواحٍ كثيرة من حياتنا: من المفردات إلى المهن واللباس والأكل وبعض عادات الضيافة. فتعالوا نَجُلْ معًا على أبرز العادات التي انتقلت من تركيا أو الدولة العثمانية إلى المشرق العربي ولبنان.

 

د. باسم فليفل الأستاذ الجامعي المختص بالتاريخ الحضاري والسياسي للدولة العثمانية يرسم لوحة متكاملة التفاصيل عن العادات والتقاليد التي وصلت إلينا من العثمانيين وصارت جزءًا من ثقافتنا وعاداتنا اليومية بعد أن تبنّيناها. هذه العادات تصبّ كلّها وفق د. فليفل في خانة التراث الإسلامي لكنّها أخذت مع كل فترة وفي كل منطقة نكهة معيّنة حملت شيئًا مختلفًا لكنّ جوّها العام بقي مألوفًا، والثقافة العثمانية هي جزء من التقليد الإسلامي الأكبر. حتى الطوائف غير الإسلامية غرفت من هذه العادات وثمة قول مأثور “أنّ نصارى الشرق مسيحيون في دينهم ومسلمون في ثقافتهم” وبعض العلماء المسيحيين ساهموا في بناء الحضارة الإسلامية. وتشكّلت الثقافة العثمانية من اندماج بين الثقافات الإسلامية السابقة من فارسية وسلجوقية وغيرها وصارت الحضارة البيزنطية جزءًا منها في ما بعد.

 

عادات ورثناها

 

أهمّ ميزة ثقافية برزت في المشرق العربي خلال العصر العثماني هي المظهر الخارجي واللباس. ففكرة الشروال والقميص التي ظهرت في بلاد الشام والعراق وبشكل أقلّ في مصر مأخوذة من اللباس الذي كان شائعًا في الأناضول والبلقان لحماية الجنود من البرد وكانت منتشرة بشكل خاص في الوسط العسكري. وكون الطقس في لبنان وسوريا شبيهًا بطقس البلقان بدأ اعتماد هذا النوع من اللباس الذي أصبح تقليدًا في ما بعد.

 

ومن أبرز السمات في الشكل التي وصلت إلينا من العثمانيين الشوارب. ففي العصور القديمة كان الرجل وفق السُنّة النبوية يطلق لحيته دون شاربين ويطيلها حتى تمسك باليد وكان الملتزمون دينيًّا يخفّفون شواربهم إلى حدّ كبير أو يحلقونها تمامًا. إلّا أنّ الانكشاريين وهم فرع من العسكر العثماني كانوا يطيلون شواربهم ويفتلونها تعبيرًا عن الهيبة والسطوة. ويروي المؤرخ “ابن إياس” الذي شهد ضمّ العثمانيين لمصر كيف دخل السلطان سليم القاهرة ومعه الانكشاريون فتعجّب الناس من عسكر مسلم دون لحية ومع شوارب مفتولة ولكن كان ذلك بناء على فتوى شرعية تسمح بإطلاق الشوارب لما تعطيه من هيبة تتيح للانكشاريين ترهيب أعدائهم. وبدءًا بهذه الفترة بدأ الرجال في المشرق لا سيّما في القرن التاسع عشر يهتمّون بشواربهم التي باتت رمزًا للرجولة وزينة الرجال.

 

أما الطربوش الذي اشتهر على أنه لباس تركي عثماني فهو في الأصل من المغرب أو تونس، وفق ما يشرح د. فليفل، انتقل إلى مصر مع محمد علي باشا وابنه ابراهيم باشا اللذين كانا يرتديان الطربوش وجعلا العسكر يرتدونه أيضًا وحين سيطر على الشام صار العامة فيها يلبسون الطربوش. وحينها كانت الدولة العثمانية ومن ضمن سعيها لتحديث أنظمتها وتحديث اللباس قد أجبرت الموظفين الحكوميين على ارتداء الجاكيت والقميص والبنطلون مع وضع الطربوش على الرأس وصار هذا النموذج يعبّر عن الرفعة والأناقة والمركز وبات الناس يقلّدونه في المشرق العربيّ.

 

من الدكنجي إلى البوظة والبرطيل

 

بالانتقال إلى العادات الأخرى التي وصلت إلينا من الدولة العثمانية كما يرويها د. فليفل، لا بدّ من ذكر الموسيقى الشرقية كما نعرفها اليوم بمقاماتها وآلاتها. وهي التي ظهرت في القرن التاسع عشر على يد العثمانيين الذين اهتمّوا جدًّا بالموسيقى لا سيّما آلات الدربكة والدفّ مع الخشخاشات بعد أن كانت الموسيقى الشرقية بأسلوبها القديم معروفة منذ الدولة العباسية والأندلس. أمّا على صعيد اللغة فمصطلحات تركية كثيرة لا تزال مستخدمة في اللغة العربيّة لا سيّما في المشرق العربي ومنها حرفا (جي) اللذان يضافان إلى آخر الكلمة ويفيدان النسبة. وقد شاع استخدامهما للدلالة على المهنة مثل الدكنجي، الكهربجي، المعمرجي… حتى أنّ بعض العائلات حملت هذا الاسم مثل الصابونجي، العرقجي… وفي بيروت اليوم عائلات عدّة عندها جذور تركية واضحة مثل لوند وأرناؤوط والموزلي… ومن المصطلحات التركية المستخدمة في حياتنا اليومية كلمة “أوضة” وتعني في الأصل ثكنة عسكرية، وجاق، بوظة، دندرما. وبعض الألقاب التي راجت بشكل خاص في مصر مثل باشا وبيه وباش كاتب أو مهندس… وثمّة مصطلحات نستخدمها تنسب إلى العثمانيين لكنها في الواقع أقدم منهم ومنها كلمة برطيل وبخشيش لكنّ الكلمتين صارتا جزءًا من الفساد الذي استشرى في الدولة العثمانية حين ضعفت.

 

وإذا أردنا التعمّق أكثر نجد أنّ الكثير من قوانين الأحوال الشخصيّة المعتمدة في المشرق العربي مستمدّ من مجلة “الأحكام العدلية” وهي محاولة عثمانية جرت في حوالى العام 1861 على أيام السلطان عبد المجيد الأول لتقنين الشريعة الإسلامية وتفصيلها على شكل القوانين الأوروبية. وفي هذه الفترة التي عرفت بعصر التنظيمات تمّ تنظيم مسائل الزواج والطلاق والميراث واعتمدت في ما بعد كقوانين أحوال شخصية عند المسلمين في دول المشرق.

 

ومن الشاورما إلى الأركيلة والقهوة التركية

 

بالنسبة إلى المأكولات والأطباق لا شكّ أنّ هناك تداخلًا بين المطبخ التركي والمطبخ العربي ومن أبرز الأكلات التي انتقلت إلينا من تركيا الشاورما. ففي أواخر القرن التاسع عشر في اسطنبول ولدت الشاورما كمحاولة لتأمين وجبة سريعة للموظفين الإداريين في الدوائر الحكومية وانتشرت بعدها في بلاد الشام والعراق. أما بالنسبة إلى الشيش طاووق أو الشيش كباب، فقد يكون أصلها تركيًّا أو فارسيًّا. ومن الأكلات المعروفة المشتركة ورق العنب أو اليبرق كما يقال لها وهي كلمة تركية.

 

وتكثر العادات المشتركة بين الحضارتين العربية والعثمانية وإن كان بعضها يعود إلى حقبات سابقة أو حتى بلدان بعيدة لكن انتشارها في الأناضول سرّع من وصولها إلى العالم العربي. ويمكن على سبيل المثال ذكر “الأركيلة” والتنباك. وهذا الأخير انتشر استخدامه في العصر العثماني لكنّ الإسبان اكتشفوه في أميركا وانتقل من خلال التجارة إلى اسطنبول وبيروت وصيدا والقاهرة وانتشر في المقاهي. والأمر المؤكّد أنّ التدخين في المقاهي بدأ في مدينة تركية كبرى وكان يستخدم فيه الغليون الطويل أو “الشبق”، فيما الأركيلة ظهرت في القرن الثامن عشر في الهند وانتقلت إلى إيران ثم إلى الدولة العثمانية بمختلف مدنها ومن بينها المدن العربية.

 

 

 

وعند الحديث عن العادات التركية لا بدّ من ذكر القهوة التي لا يزال حتى اليوم يطلق عليها اسم القهوة التركية. في القرن السابع عشر بدأ ينتشر شرب القهوة التي كان أصلها من الحبشة وظهر ما يعرف بالمقاهي وكان يظن أنها تؤثّر في العقل مثل الحشيشة فقام مفتي اسطنبول بتحريمها إلى أن حصلت حادثة في مصر جعلت الأزهر يرسل إلى اسطنبول كتابًا يعلن فيه أن لا ضرر من القهوة وحينها صار الأتراك يصنعون القهوة بطريقة مختلفة عن القهوة العربية التي تحتسى مع الهال وبدون قشوة على وجهها كما لا تزال معروفة إلى اليوم في بلدان الخليج العربي. وصارت القهوة التركية هي قهوة المزاج وانتشر شربها في العالم العربي.

 

ومن لا يعرف “شاش باش” ودشش” و “هب يك” و “جوهار سي” فهل طاولة الزهر أتتنا من تركيا هي الأخرى كما القهوة؟ يؤكد د. فليفل أنّ ألعاب طاولة الزهر عرفت من أيام العباسيين وقبلهم الفرس وهذه التعابير التي يظنّ أنها تركية قد تعود لأصول فارسية وبعضها لأصول تركية ولكنّ الأهم أنها لا تزال حتى اليوم تستعمل ذاتها في لبنان والشام وتركيا.

 

عودة من باب الدراما

 

حاليًّا، وبعد انقطاع طويل عاد التداخل بين العادات التركية والعربية ليأخذ مجراه عبر الدراما والمسلسلات. وفي حين كان الناس في السابق يتأثرون بالملوك والسلاطين هم اليوم يتأثرون بالحكايات والإعلام. ومن العادات التي بتنا نراها في البيوت العربية خلع الأحذية عند الباب. لكن في الواقع يقول د. باسم فليفل هذه عادة عربية قديمة انتقلت إلى الأتراك عند اعتناقهم الإسلام ولا يزالون متمسّكين بها فيما نسيها معظم الناس في لبنان والمحيط.

 

ومن طرائف العادات اليوم التي وصلت إلينا عبر المسلسلات وضع الملح في القهوة و تقديمها للشاب الذي يتقدّم لخطبة عروسه. فإن شربها وسكت فهذا معناه أنه قابل بالفتاة بكل أحوالها وقد أحبّ اللبنانيون هذه العادة وصارت بعض العائلات تمارسها مع الخطّاب في إشارة واضحة إلى “تلاقح” في العادات بين الشعوب القريبة.

 

وبعد، هل ستأتينا المسلسلات التركية بعادات أخرى غريبة أو راقية مثل احترام الكبير وسطوة الأب واللمة العائلية؟ أم سنكتفي بما نلنا منها حتى الآن؟