IMLebanon

المسألة الشّرقية إلى الواجهة من انطاكيا إلى بيت كيليكيا

كتب شربل بو مارون في “الجمهورية”:

أثبت التاريخ أنّ كل قرن تظهر قوَة عظمى ما، تملك ما يكفي من الإرادة والقوة والعزم الفكري والأخلاقي، لتصوغ نظاماً عالميّاً جديداً وفقاً لقيمها الخاصة. في القرن السابع عشر، كانت فرنسا مع الكاردينال ريشيليو ومبدأ المصلحة الوطنية التي أطلقها ماكيافيلي وطبّقها ريشيليو. في القرن الثامن عشر، كانت بريطانيا ومبدأ «توازن القوى» الذي بدأ مع عصر النهضة وتطور كثيراً في عصر التنوير مع ديفيد هيوم وماديسون و«أوراقه الفيدرالية» في السياسة، ومع آدم سميث و«اليد الخفية» في الإقتصاد.

في بدايات القرن السابع عشر، أسّس هوغو غروتيوس «علم القانون الدولي»، وأصبح « توازن القوى» إحدى المبادئ الأساسية للديبلوماسية. ووفقًا لهذا المبدأ الجديد، شكّلت الدول الأوروبية نوعاً من المجتمع الفيدرالي، وهو الشرط الرئيس للحفاظ على توازن القوى.

ثم قام «الوفاق الأوروبي» بعد انعقاد مؤتمر فيينا، على قاعدتين: استعادة توازن القوى في أوروبا وحمايته، وحفظ السلام والاستقرار كمسؤولية جماعية تحكمه المُثُل والقيم.

وبعدها جاء بيسمارك ومعه «الريبوليتيك» أو الواقعية السياسيّة، وبدأ سباق التسلّح والحربان العالميتان، فبرزت الولايات المتحدة كقوة عالمية والنظام الجديد القائم على الحرية، العدالة، حق تقرير المصير والقيم المسيحيّة.

بالعودة إلى فرنسا، وصل الكاردينال ريشيليو إلى الحكم عام 1624، في وقت كان الإمبراطور فرديناند الثاني «هابسبورغ» يحاول إعادة السطوة الجرمانية على كامل أوروبا وتقويض حكم الأمراء البروتستانت. ففضّل حينها ريشيليو المصلحة الوطنية الفرنسيّة ودعم البروتستانت في مواجهة الكاثوليك الجرمان. فكان «سلام ويستفاليا» وما نتج منه من تحوّل فرنسا إلى القوة الرئيسية في أوروبا، وتراجع كبير في قوة ونفوذ الكنيسة الكاثوليكية، وتراجع دور النبلاء، وتحوّل ألمانيا الى منطقة تصفية الحسابات الأوروبيّة.

بعد زهاء مئتي عام، كانت الثورة الفرنسيّة والمبادئ العلمانية تمزّق الملكيّة في فرنسا. ووصل نابوليون الأول إلى الحكم، فنصّب نفسه امبراطوراً، وقامت الأحلاف ضدّه، فعُزلت فرنسا، ونشأ نظام فيينا، ومرة أخرى، تمرّدت الإبنة الكبرى للكنيسة على أمها، ورفضت فرنسا (عبر تاليران) الدخول في الحلف المقدّس القائم على الأسس المسيحيّة، وفضّلت الحلف الرباعي العلماني.

بدأ السلام الأوروبي يتزعزع مع حرب القرم، حيث وقفت فرنسا مع العثمانيين ضدّ الروس في البلقان، ومن ثم مع البروس ضدّ النمساويين، فحصل ما كان يخشاه ريشيليو، توحّدت ألمانيا وأصبحت قوة عظمى، وأصبحت فرنسا دولة ضعيفة أقصى طموحاتها استرجاع الألزاس واللورين من ألمانيا.

قضية أخرى غيّرت مصير أوروبا بشكل جذري، «المسألة الشّرقيّة» التي قسّمت أراضي «الرّجل المريض» في الشّرق.

اسباب كثيرة أدّت إلى مرض السلطنة العثمانية وضعفها، كالحروب المتتالية، ونذكر منها الحرب العثمانية-الهوتاكيّة (السلالة الأفغانية الحاكمة لبلاد فارس). تتوّجت المسألة الشرقيّة باتفاقية سيفر، التي ناقشت مصير الشعوب غير الناطقة باللغة التركيّة، فتمّ تحديد مصير أرمينيا ولبنان والأراضي المقدّسة واليونان والأكراد.

في 25 حزيران 2021، التقى وزيرا خارجيّة فرنسا والولايات المتّحدة وطرحا المسألة الشّرقيّة من جديد، وتكلّما بالمباشر عن لبنان وأرمينيا بعد مئة وعام من مؤتمر سيفر.

بالتوازي، يُقام لقاء لبطاركة الشّرق مع الحبر الأعظم، للنظر والتشاور في القضيّة الشرقية، حيث دعا بطاركة الكراسي الشرقيّة، لا سيما انطاكيا وبيت كيليكيا، للبحث والتشاور في حل مسائل المسيحيين في الشرق، انطلاقاً من ازمة لبنان. فالفاتيكان يعرف تماماً أنّ خريطة الشرق تُرسم من جديد، ولن يرضى هذه المرّة أن يكون الحلّ على حساب مسيحيي المشرق. وهنا أنقل ما حرفيّته في الرّسالة التي وجّهها الى البطاركة:

«… اسعَوْا في المساهمة في بناء الخير العام، وَفقًا لمبادئ تعليم الكنيسة الاجتماعيّ، وهو في أمسّ الحاجة إلى أن يُعرف، كما تمّ الإشارة إلى ذلك في الإرشاد الرَّسوليّ بعدَ سينودُوس «الكنيسةُ في الشَّرقِ الأوسط»، وكما أردتم أن تذكروا ذلك بإحياء الذكرى الثلاثين بعد المائة للرسالة البابويّة العامة «في الشؤون الجديدة» Rerum Novarum».

هذا السينودوس صدر في عهد البابا بينديكتوس السادس عشر، ويدعو الى انخراط المسيحيين في الحياة العامة، لأنّهم أبناء البلاد الأصليين، كما ويدعو الى الحوار والسلام بين ابناء الديانات الإبراهيميّة الثلاث، اضافة الى قوله: «أتَمنَّى أن يتمكَّنَ مؤمنو الشَّرق الأوسط أن يصبحوا هم أنفسهم حجاجاً في هذه الأماكن الَّتي قدَّسها الرّبُّ نفسّه».

أما بالنسبة لوضع اورشليم، فقد ذكرها السينودوس، وقد اعلنها أيضاً بينيدكتوس السادس عشر في خطاب في مركز هيشال شلومو، أورشليم (12 أيار2009)، حيث شدّد على الـ»كوربوس سيباراتوم» اي كيان اورشليم المستقل، استناداً الى مؤتمر لوزان عام 1949 والقرارين الدوليين 181 و 194.

أما بالنسبة الى رسالة الشؤون الحديثة، التي جاءت رداً على «الإشتراكيّة» التي ساوت بين الفقر والبؤس في أوروبا، لا سيّما في فرنسا، فقد دافعت الرسالة عن المُلكيّة الفرديّة كدافع للعمل وكحق طبيعي للإنسان سابق لقيام الدّولة. وتكلّمت عن الفوارق المجتمعيّة الطبيعيّة التي حاول الإشتراكيون حلّها بصراع الطّبقات. وقد جاءت هذه الرّسالة للنهوض بـ»الديمقراطية المسيحيّة» كخط سياسي يتبنّى اقتصاد السوق، معتمداً الضوابط الأخلاقيّة المسيحيّة. ودعت الى اعادة إحياء النقابات، التّي ساهمت بسقوط الشيوعيّة، انطلاقاً من بولندا مع ليخ فاونسا. وتكلمت عن العدالة والتضامن والترقي للشعوب.

مع كلّ ما تقدّم، نجد أنّ الحلّ الذي طرحته البطريركيّة المارونيّة لعقد مؤتمر دولي خاص بلبنان، هو الأنسب. مؤتمر يسعى الى تنفيذ قرارات الامم المتحدة وقبول الحياد وحلّ قضيّة اللجوء والمساعدة في اعادة تكوين السلطة ومكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة وحلّ الأزمات المالية.

الوضع الدولي أصبح مهيّئاً أكثر فأكثر لقبول حياد لبنان، تركيا تستعد اليوم لدخول أفغانستان، الأمر الذي يشير الى انتهاء الحلم «العثماني» لإردوغان. رأس الكنيسة الكاثوليكيّة اليوم هو «جازويتي» والجازويت هم الأخبر في السياسة. في زيارته للعراق، التقى بالسيّد السيستاني، وكأنّه اعترف بمرجعيته مقابل مرجعيّة الخامنئي.

نحن اليوم إذاً أمام واقع يشبه واقع مؤتمر فيينا، حياد سويسرا كفله ذلك المؤتمر بغطاء فاتيكاني. على الرغم من انّ التكلّم عن شكل نظام الحكم في لبنان سابق لأوانه، غير أنّ أوجه الشبه بين لبنان وسويسرا كثيرة. فالفيديراليّة قائمة منذ أيام الممالك-المدن الفينيقيّة، وصولاً الى اقتصاد الجبل الليبيرالي المنتج، البُعد عن السلطة المركزية والحريّة الفرديّة.

الوجود المسيحي في هذا الشرق أصبح ضرورة، حياد لبنان وسيادته على أراضيه والعمل للوصول إلى مجتمع تعدّدي يحفظ حقوق الأقلّيات وينادي باقتصاد منتج، أصبح حاجة. فالذي حمى سويسرا خلال الحرب العالميّة الثانية كان الحياد والسرّية المصرفيّة والإقتصاد الحرّ. فهل فرنسا ستخذل الفاتيكان وأميركا، أم أنّ الديمقراطية المسيحية ستُغيّر مصير دول أوروبا انطلاقاً من فرنسا؟