IMLebanon

اقتصادات الحرب وتأثيرها في لبنان

 

 

لطالما كانت الحروب مدمِّرة على الدوام، سواء من الناحية الإنسانيّة أو الاقتصاديّة. واضطرّت الدول في كثير من الأحيان إلى الاستعانة بمواردٍ ضخمة ماليّة واقتصاديّة وبشريّة، لتمويل الصراعات المسلَّحة، ما أدّى إلى اضطرابات اقتصاديّة واجتماعيّة كانت في معظمها عنيفة في أثرها على هذه البلدان.

سنتحدّث في هذه المقالة بشكلٍ مقتضب عن تاريخ اقتصادات الحرب، ونستكشف معًا تداعيات الحروب الماضية وأثرها الكبير على الاقتصاد العامّ، ونقدِّم بعض الأمثلة التوضيحيّة، التي نسلِّط من خلالها الضوء على خصائص اقتصادات الحرب، ونرى مدى تأثيرها في لبنان.

يشير اقتصاد الحرب إلى الممارسات الاقتصاديّة الاستثنائيّة التي تمّ ويتمّ تنفيذها خلال فترات تاريخيّة معيّنة من الاضطرابات الكبيرة، ولكنّها لا ترتبط بالضرورة بوجود صراعات مسلِّحة بشكلٍ مباشر. وهي بحدّ ذاتها تهدف إلى الحفاظ على الأنشطة الاقتصاديّة الأساسيّة للبلاد، وضمان الاكتفاء الذاتيّ، وتحجيم الاستهلاك الخاصّ، وضمان إنتاج الغذاء وسيطرة الحكومة على اقتصاد الدولة، وضبط اللعبة الاقتصاديّة في حيثيّاتها الجديدة والمتقلّبة.

يمكننا هنا أن نسرد أمثلة مختلفة لحروبٍ شتّى، وسنعرضها بترتيب زمنيّ. ونبدأ بالحرب الأهليّة الأميركيّة (1861-1865). إذ تُعَدّ هذه الحرب الأهليّة مثالًا رئيسيًّا لاقتصاد الحرب. فكان لها تأثير عميق على الاقتصاد الأميركيّ عمومًا. واضطرّ سواء الاتّحاد أو الولايات الكونفدراليّة حينها إلى تمويل جيوشهما عن طريق زيادة المعروض النقديّ، ما أدّى إلى ظهور موجة تضخّم كبيرة. كما قامت الولايات برفع نسبة الضرائب، وأصدرت سندات بأعداد هائلة لتغطية تكاليف الحرب. كما تمتّعت صناعات الأسلحة بازدهار غير مسبوق، لكنّ الاقتصاد الأميركيّ بشكل عامّ عانى من دمار ماديّ هائل، وخسائر في الأرواح، وفوضى في تنظيم العمل.

أما المثال الثاني فهو الحرب العالميّة الأولى (1914-1918)، فكانت هذه الحرب «الكونيّة» أوّل صراع عالميّ في القرن العشرين، وكان تأثيرها الاقتصاديّ هائلًا. إذ تكبّدت الدول المتحاربة نفقات ضخمة لتمويل الأعمال العدائيّة. واقترضت الحكومات بكثافة، ما أدى إلى ظهور مستويات غير مسبوقة من الديون الحكوميّة. وكانت اقتصادات الحرب موجّهة بشكلٍ كبير نحو إنتاج الأسلحة، كما أدّى الصراع إلى ظهور صناعات جديدة، مثل الطيران.

ومع ذلك، أدّت الحرب أيضًا إلى ارتفاع معدّلات التضخّم، ونقص حادّ في الغذاء في العديد من البلدان. كما أدّى انهيار الإمبراطوريّات المعروفة إلى إعادة رسم الخريطة السياسيّة والاقتصاديّة للعالم، وفرضت معاهدة فرساي تعويضاتٍ اقتصاديّة كبيرة على ألمانيا، التي جرّدتها من قوّتها الصناعيّة، ما ساهم بوجهٍ غير مباشر في صعود النازيّة والتحضير لحرب عالميّة أُخرى.

كانت الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، المثال الأشدّ وضوحًا لاقتصاد الحرب. فحشدت جميع القوى الكبرى المعنيّة مواردها لدعم المجهود الحربيّ بشكلٍ منقطع النظير. فعلى سبيل المثال، طبّقت الولايات المتّحدة الأميركيّة سياسة اقتصاد الحرب التي ساعدت في إخراج البلاد من «الكساد الكبير»: وهو الكساد الاقتصاديّ العالميّ الحادّ الذي حدث في ثلاثينات القرن العشرين وبداية عقد الأربعينات انطلاقًا من الولايات المتّحدة الأميركيّة، ويُعَدّ أكبر وأشهر الأزمات الاقتصاديّة في القرن العشرين، ويعتبر المؤرِّخون أنّ شرارته انطلقت مع انهيار سوق الأسهم الأميركيّة في 29 تشرين الأوّل 1929 والمسمّى بالثلثاء الأسود. وقد كان الإنتاج الضخم للأسلحة، والاقتراض الواسع، وبرامج التقنين من السمات المميّزة لهذا العصر. وبعد الحرب، أدّت خطّة مارشال إلى إعادة إعمار أوروبّا، وتعزيز الاقتصاد العالميّ. ومع ذلك، كان للصراع أيضًا عواقب دائمة، بما في ذلك تقسيم ألمانيا إلى غربيّة وشرقيّة، والحرب الباردة بين القطبين الشرقيّ والغربيّ المتمثّلَين بالاتّحاد السوڤياتيّ حينها، والولايات المتّحدة الأميركيّة.

أمّا في حرب فييتنام (1955-1975)، فقد التزمت الولايات المتّحدة الأميركيّة بإنفاق عسكريّ كبير لدعم فييتنام الجنوبيّة ضد القوّات الشيوعيّة في الشمال. وأدّت الحرب إلى زيادة الديون الأميركيّة بطبيعة الحال، وارتفاع التضخّم والاحتجاجات المناهضة للحرب في أواخر الستينات من القرن الماضي. كما أدّى المجهود الحربيّ إلى تحويل الموارد من مناطق أُخرى، ما أدّى إلى تداعيات اقتصاديّة سلبيّة على أميركا بوجه التحديد.

أخيرًا، الحرب في العراق أو حرب الخليج الثالثة (2003-2011)، وقد استلزمت هذه حرب نفقات كبيرة على الولايات المتّحدة الأميركيّة، والدول الملتزمة في القتال معها. وكان للتكاليف الماليّة، إلى جانب الفوضى الاقتصاديّة والاجتماعيّة في العراق، تأثيرًا كبيرًا ما زال يمتدّ أثره ويتضاعف إلى يومنا هذا. بالإضافة إلى ذلك، حفّز المجهود الحربيّ صناعة الأمن الخاصّ، والشركات المرتبطة بإعادة الإعمار، ما أدى إلى تحقيق أرباح كبيرة.

وبعد أن استعرضنا بطريقة سريعة أهمّ الحروب وتبعاتها الاقتصاديّة، يمكننا أن نستخلص أنّ الخصائص الأساسيّة لاقتصاد الحرب تشمل السيطرة الشاملة على السياسة النقديّة لتجنّب التضخّم المفرط، وتفضيل الاكتفاء الذاتيّ بالنسبة للمنتجات الأساسيّة والمعدّات العسكريّة، تدابير الوقائيّة والاستباقيّة للحدّ من استهلاك الطاقة، تشجيع العمالة النسائيّة المنخفضة التكلفة لشغل شواغر الملتحقين بالجيش، أو من تمّ خسارتهم في أثناء الحروب. كذلك، التغييرات في السياسة الزراعيّة، وتوجيه المحاصيل والصناعة التحويليّة نحو إنتاج الحبوب، وبشكلٍ عامّ، المنتجات ذات المحتوى العاليّ من الكربوهيدرات، كالذرة وغيرها. وأخيرًا، وبطريقة بديهيّة، زيادة إنتاج الصناعات الثقيلة والعسكريّة، وتنفيذ تدابير للحدّ من الاستهلاك الخاصّ، التي قد تشمل التقنين للصناعة والاستهلاك بين الأُسر.

على العكس من ذلك، بالنسبة للعديد من البلدان غير المتحاربة والمتاخمة إقليميًّا أو القريبة اقتصاديًّا من منطقة نزاع مسلح ما، يُعَدّ اقتصاد الحرب فرصة للنموّ والتنمية، حيث يمكن تلك الدول زيادة صادراتها إلى الأطراف المتحاربة. وفي حالات أُخرى، يدعم اقتصاد الحرب عمليات البحث والتطوير التكنولوجيّة التي تعمل على تحسين قدرة الدولة. كذلك، استقبال اللاجئين، والاستفادة من اليد العاملة الرخيصة، وهجرة العقول إليها.

في البلدان المتقدّمة والصناعيّة كذلك، يركّز «اقتصاد الحرب» بشكلٍ أساسيّ على إعادة تحويل القدرات الصناعيّة للمجهود الحربيّ. كما تركّز البلدان النامية على تقديم المساعدة للاجئين، والرعاية الطبيّة للجرحى، وضمان استمراريّة سلاسل توزيع الغذاء الأساسيّة بشكلٍ عامّ. ويُعتبر هذا الأمر صحيحاً إلى حدٍّ ما، لأنّ حكومات الدول المستضيفة عادةً ما لا تهتمّ كثيرًا برعاياها، بل تحاول الاستفادة الماليّة من دون دراساتٍ اقتصاديّة مستدامة، فتتولّى منظمات الإغاثة هذه المهام. وقد حاولت العديد من الدراسات الاقتصاديّة تقدير تأثير الحرب على النموّ الاقتصاديّ، لكن لا توجد علاقة ذات دلالة إحصائيّة بين نموّ الإنفاق العسكريّ والنمو الاقتصاديّ.

أمّا في المشهد الاقليميّ، يمكننا أن نبحث أيضًا في تداعيات الحرب على لبنان بين الكيان الإسرائيليّ والحكومة الفلسطينيّة في الأراضي المقدّسة. فمنذ منتصف القرن المنصرم، أدّت الحرب العربيّة الإسرائيليّة في العام 1948 إلى وصول اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان. وقُدِّر عدد اللاجئين الفلسطينيين بحوالى 174,422 لاجئًا في العام 2017. وقد كان لوجود أولئك اللاجئين التأثير الكبير على البنية التحتيّة في لبنان، وموارد البلد، واستقراره السياسيّ والأمنيّ.

كما تأثّر لبنان بالعديد من الصراعات المتلاحقة بين الكيان الإسرائيليّ والفصائل الفلسطينيّة، ولا سيّما في الأعوام 1967 و1978 و1982 وآخرها في العام 2006. وكان لهذه الصدامات تأثيرٌ كبير ومباشر على الاقتصاد اللبنانيّ، ما تسبّب في اضطرابات تجاريّة، وتعطيل قطاع السياحة، وارتفاع تكاليف الدفاع والأمن القوميّ. كما زاد الإنفاق العسكريّ في لبنان بسبب الحاجة إلى الدفاع ضدّ التهديدات المحتملة من الكيان الإسرائيليّ. ففي العام 2019، شكّل الإنفاق العسكريّ ما نسبته 5% من الناتج المحليّ الإجماليّ اللبنانيّ، أي حوالى 1,7 مليار دولار أميركيّ.

بوجه التحديد، تأثّر قطاع السياحة في لبنان بعدم الاستقرار الإقليميّ. فانخفض عدد السياح الوافدين بشكلٍ ملحوظ في أعقاب الصراعات. على سبيل المثال، في العام 2006، بعد حرب تمّوز، سجّل لبنان انخفاضًا بنسبة 25% في أعداد السيّاح. وعطّلت الصراعات الإقليميّة تجارة لبنان مع جيرانه. فعلى سبيل المثال، في العام 2006، خسر لبنان ما يقارب الـ 20% من صادراته بسبب الصراع على جبهته الجنوبيّة.

كذلك، كان للحرب الأهليّة اللبنانية تأثير هائل على اقتصاد البلاد، حيث تسبّبت في تدمير البنية التحتيّة، والشركات والمناطق المأهولة بالسكّان. وقُدِّرت تكاليف إعادة الإعمار بمليارات الدولارات. وتراكمت على لبنان ديون كبيرة خلال الحرب الأهليّة لتمويل الإنفاق العسكريّ، وتكاليف إعادة الإعمار. كما غادر العديد من اللبنانيّين البلاد، وأخذوا رؤوس أموالهم معهم.

على الرغم من جهود إعادة الإعمار بعد الحرب الأهليّة، استمرّ الاقتصاد اللبنانيّ في مواجهة تحدّيات مثل عدم الاستقرار السياسيّ، وارتفاع الديون والاعتماد على الخارج. وقد تدهور الوضع الاقتصاديّ أكثر في السنوات الأخيرة بسبب عوامل متعدِّدة، بما في ذلك الأزمة المصرفيّة والماليّة المستمرّة، من دون أيّ خُططٍ واضحة لتصحيح الوضع الاقتصاديّ وتصويب الخطط الماليّة العامّة.

بالإضافة إلى ما ذُكِر، تمّ في لبنان صياغة عبارة «أغنياء الحرب» أو «الأغنياء الجُدد»، لكنّه مصطلح يعود بتاريخه إلى الحرب العالمية الثانية، وظلّ قيد الاستخدام المستمرّ منذ ذلك الحين. ولها مظاهر يمكن ذِكر بعضها على وجه التحديد لا الحصر.

ففي حالة الدمار المرتبط بالحرب، هناك اتّجاه للدخول في عقود إعادة الإعمار الخاصّة «لتلبية احتياجات الوضع المُلحّة». كم بدأ سوق العقارات في الازدهار بالفعل، حيث استأجرت العائلات النازحة من الجنوب شققًا في المناطق البعيدة من الصراع المباشر كإجراء احترازيّ. ولكن مع الفوضى التي تسود عادةً، يتمّ غالبًا تضخيم الأمور. وبالتالي نشهد اندفاع للعائلات، سواء كانت ضحايا الحرب أو مجرّد المنتفعين، للاستيلاء على الأراضي العامّة، أو الحكوميّة أو حتّى الخاصّة وبناء مساكن مؤقّتة على عجل. وفي مثل هذه الحالات، كان هناك بالفعل طلب غير طبيعيّ على الأسمنت وباقي مواد البناء الأساسيّة.

كذلك، تميل المنظمّات الإنسانيّة، التي تتسمّ عمومًا بالدقّة في إدارتها لتوزيع المساعدات، إلى الاسترخاء قليلًا في مواجهة إلحاح الاحتياجات الحيويّة. ويزدهر حينها كبار التجار ماليًّا مرّة أُخرى، لقدرتهم على تلبية المتطلّبات الجديدة، وتأقلمهم عن طريق شبكاتهم، لمضاعفة الأرباح من خلال الاحتكار، أو التخزين، أو التصدير غير الشرعيّ.

ويبقى القطاع السياحيّ الحلقة الأضعف، إذ لا يلبث أن يتعافى ليتعرّض لصدمة جديدة، متأثّرًا معه القطاع المصرفيّ إلى حدٍّ ما، الّذي يعتمد على عامل الثقة، والاستثمار الآمن.
نهاية، علينا ألّا نقع في فخّ المواقف السياسيّة الصرفة، والمواقف القوميّة والوطنيّة المغلّفة… فالحروب ترتبط أيضًا، وبوجه أساسيّ بالمصالح التجاريّة، فهي تتعلّق بمن يحصل على المال، وجمع المكاسب ذات الأبعاد الاقتصاديّة. إذ لدى الصراعات المسلّحة تبعات متنوّعة، سواء أكانت إيجابيّة أم سلبيّة. فيحفِّز الإنفاق العسكريّ في بعض الأحيان الابتكار التكنولوجيّ، والإنتاج الصناعيّ، ولكنّه قد يؤدّي أيضًا إلى زيادة الدين الوطنيّ، والتضخّم، واختلال التوازن الاقتصاديّ.

إنّ فهم هذه التداعيات الاقتصاديّة أمرٌ ضروريّ وحيويّ لتقييم تكاليف الصراع المسلَّح وفوائده. وفي عالم مثاليّ، من الممكن أن تساعد هذه الدروس المستفادة من الماضي في تعزيز السلام، وتعزيز الحلول الديبلوماسيّة للنزاعات الدوليّة.

ختامًا، نتساءل في الأيّام الأخيرة حول مصير لبنان الاقتصاديّ والماليّ في صراعٍ قريب يؤثّر بوجهٍ مباشر في المنطقة ككلّ. كيف يتباحث أصحاب القرار والمسؤوليّات في تبعات الصراعات الإقليميّة «غير المفاجئة» على اقتصادنا الجريح؟ وكيف لنا، لا أن نقدّم الحلول الوقائيّة وحسب، بل الحلول التي تجعلنا نستفيد من الفرص المتاحة للنهوض من كبوتنا الاقتصاديّة؟ وكيف لنا أن نُدير عقليّة «اقتصاد الحرب» بحكمة وصدقيّة ونزاهة، والتعلّم من تاريخنا؟ … مع رجائنا في إتمام المصالحة، ووقف نزف الدماء، وإحلال السلام.