IMLebanon

متى تولَد «حكومة العهد» ؟

 

فـي مقالٍ سابق، وتحديداً فـي 21 حزيران، تساءلنا: هل ينتهي الـمونديال قبلَ الانتهاء من تشكيل الـحكومة؟ أمّا اليوم، وبعدما غاب الـحوار الـهادئ والبنّاء، وكثـرَ الكلام عن الأحجام والأوزان التـي أفرزَتـها الانتخابات، وبعدما سقط «إتفاق معراب» فـي أتون الـحسابات الرئاسية والسلطوية، وعادت نغمة «الفيتوات» على بعض الـحقائب تظهَر من جديد، فقد أصبح انتهاء الـمونديال الكرويّ بداية التفتيش عن حلول، وليس انتهاء تشكيل الـحكومة.

ليس بـمستغرَب أن تطول جلجلة التأليف وتصطدمَ بعقَدِ الـحقائب السيادية والـخدماتية والوزارات التـي تبيض ذهباً وقوّةً ونفوذاً، ولكن الـمُستغرَب أن تكونَ الأزمة بعد شهرين تقريباً من التكليف عادت إلى بداياتـها، أي فـي عدم الاتفاق على الـحصص الـمشروعة لكلّ فريق، فـي غياب الـمعايــيـر الواضحة لتقاسـمِ جبنة الـحكْم.

البعض يسأل، ونـحن منهم، هل الـمشكلة الـحقيقية تكمن فقط فـي حصّة «القوات اللبنانية»؟ وهل حُلَّت العقدتان السنّية والدرزية ؟ وهل الـجزء السلطويّ فـي «إتفاق معراب» (تقاسـم الوزارات والتعيـينات) هو أساس الـمشكلة التـي لا حلّ لـها ؟ أم أنّ هناك عقدة مـخفيّة «يتستّـر» عليها الـمسؤولون ؟

فـي اعتقادنا الـمتواضع أنّ الـمشكلة الداخلية، وعلى الرغم مِن أهـمّيتها، تُشكِّل جزءاً صغيـراً من الـمشكلة الكبـرى، وهي مشكلة التوازن الإقليمي الذي فقَده فريق 14 آذار فـي الانتخابات الأخيـرة، والضغط الأميـركي على «حزب الله» وحلفائه من أجل تقليص نفوذِهـم داخل الـحكومة، بعدما سيطروا على البـرلـمان، والبـحث عن «الثلث الضامن» الذي كان يصرّ عليه فريق 8 آذار فـي الـحكومات السابقة، عندما كانت الأكثـرية النيابية مع فريق 14 آذار.

فـي خضمّ هذه «الـمعمعة»، كيف يـمكن للرئيس الـحريري التوفيق بيـن التسوية الرئاسية والصلاحيات السنّية، والـحرب الـمفتوحة بيـن «التيار» و»القوات»، والعقدتين السنّية والدرزية، والضغوط الأميـركية والسعودية ؟ إنّـها مهمّة شِبه مستحيلة، وتـحتاج إلى الكثيـر من الصبــر والـحنكة والتضحية، وإلى بعض التواضع والتـحسّس بالـمسؤولية لدى الأفرقاء الـمحلّيـيـن، وإلى تفهّمٍ وتفاهم إقليمـي ودولـي.

لقد تعوَّد اللبنانيون على الانتظار، مُستسلميـن وخاضعيـن، إنتظَروا حكومة الرئيس نـجيب ميقاتـي ستّة أشهر، وحكومة الرئيس تـمّام سلام عشرة أشهر، وانتظروا رئاسة الـجمهورية ثلاثيـن شهراً، والانتخابات النيابية تسعَ سنوات، حتـى أصبحوا خبَـراء فـي فنّ الانتظار والـخنوع واللامبالاة. هـمُّهم الوحيد عدم الـمساس بصورة زعيمهم الـمقدّسة، وطائفتِهم الرائدة، وقادةِ أحزابـِهم الـمعصوميـن عن كلّ خطأ. يَشتـمون الدولة فـي كلّ مناسبة وفـي كلّ لـحظة: فـي ازدحام السيـر، فـي انقطاع الـمياه والكهرباء، فـي رؤية النفايات على جوانب الطرق والشواطئ، فـي غلاء الـمعيشة والأقساط والطبابة وأزمة السَكن، فـي فساد الإدارات وتسعيـرة الـمولّدات… وعندما تسألـهم مَن هي الدولة ومَن هم حكّامها ووزراؤها ونوّابـها، ومَن انتخبَهم وأوصَلهم إلى الـحكْم ؟ يضعون الـمسؤولية على «الفريق الآخر». أليس الشعب مَن انتخبَ «الفريق الآخر» ؟ ألسنا نـحن أيضاً «الفريق الآخر» ؟ يقول سقراط : «إنّ الدولة تشبه أبناءَها، فلا نطمع بتـرقيةِ الدولة إلّا بتـرقية أبنائـها».

بعد «الطائف»، وبعدما توزّعت صلاحيات رئيس الـجمهورية على رئيس الـحكومة والوزراء، وانبثقَت «الـديـموقراطية التوافقية» و «الثلث الضامن» و «حكومات الوحدة الوطنية»، (اللاوطنية وغيـر الـمُنتِجة)، وقَبِلَ الـجميع التعايشَ مع السلاح غيـر الشرعي خارج الـمؤسّسات، سقط النظام وسقطت معه الدولة.

إنّ الذي أوجَد «الطائف»، أراد إبقاءَ الوصاية السورية إلى ما شاء الله، لتـحكمَ وتتحكّمَ وتُـعيِّـن وتُقصيَ مَن تشاء. فلا رئيس الـجمهورية هو الـحاكم، ولا رئيس الـحكومة، ولا الوزراء، بل مـجموعة من رؤساء الأحزاب الطوائفيـيـن الذين نصّبوا أنفسَهم حكّاماً بفضل لاوعيِ هذا الشعب الطيّب، الذي استَسلم لغرائزه الطائفية والـمذهبية، وأعاد انتخابَ الفساد ولبنان الـمريض.

بعد «الطائف»، ضاعت مفاهيـم القيادة، ونبتَت رؤوسٌ وزعامات وشيوخ قبائل، واستولـى زعماء القبائل على مقدّرات الوطن، فتوزّعت الـحصص والـمغانـم بـحسب قوّةِ كلّ زعيم، فالوزارات السيادية للأقوى، والـخدماتية للأقلّ قوّة، والباقـي للضعفاء. أمّا الذين خارج الأحزاب والقبائل والعشائر، فلا مكان لـهم فـي جنّة الـحكْم، ولا فـي جنّات القضاء والديبلوماسية والإدارة والـمصالـح، حتـى ولو كانوا عباقرةً وحكماء وقديسيـن.

لقد أثبتَ النظام فشَله فـي كلّ شيء، فـي القضايا الـحياتية والـمعيشية البسيطة، وفـي القضايا الوطنية والسيادية الكبيـرة، وخصوصاً فـي احتـرام الاستحقاقات الدستورية ومواعيد تداولِ السلطات، ذلك لأنّ الآليّة معطّلة، والدستورَ وجهة نظر، والاجتهادات طغَت على القوانيـن ومواد الدستور، وزاد الطيـنَ بلّة، غيابُ الـمرجعيّة «القاطعة»، وتعَدُّد رؤوسِ الـحكْم، فـضاعت الإمرة و«شوشَطت» طبخة الدولة والنظام.

وكان من المؤكد أن الـحكومة لم تولد قبل انتهاء الـمونديال، ولن تولد قبل قـمّة هلسنكي، ولا قبل انتخاب رؤساء وأعضاء اللجان النيابية، ولن تبصر النور إلّا بعد إرضاء شيوخ القبائل الـمحلّـيـيـن، وشيوخ الصحاري والسجّاد والبتــرول، و»الأنكل سام»، والقيصر، وكلّ آلـهة الأرض والسـماء.

إنّ الإفلاس السياسي قد أوصَلنا إلى شفيـر الإفلاس الـمالـي، أمّا الإفلاس «الوطنـي» الذي نشهد فصوله وأبطاله اليوم، سيوصِلنا حتـماً إلى خراب الوطن.