IMLebanon

لماذا أصرَّت باريس على توقيع العساف؟

 

لم يملّ بعض الأطراف من تناول الهبة السعودية من وقتٍ إلى آخر ارتباطاً ببعض الإستحقاقات، تارَة للنيل من المبادرة السعودية وتارة من أجل التصويب على قائد الجيش العماد جان قهوجي وصولاً الى انتقاد زيارة رئيس الحكومة تمام سلام الى المملكة. وفي كلِّ مرة يأتي الردّ ليسود صمتٌ موقّت. فما الذي يضمن هذه الهبة وديمومتها؟

على مرّ الأشهر الإثني عشر التي شكّلت المسافة بين الإعلان عن الهبة السعودية غير المسبوقة والمرحلة التي تأكد فيها الحدث بالإعلان الرسمي عنها وبدء التحضيرات بما تفرضه من إجراءات إدارية وبيروقراطية لتسييل الهبة وترجمتها أمراً واقعاً، بقيَ التشكيك في الهبة عنواناً لبعض القيادات السياسية والحزبية اللبنانية لزرع الشكوك والتردّد في نفوس اللبنانيين المسؤولين على كلّ المستويات السياسية والأمنية، وكلّ مَن راهن على تعزيز قدرات الجيش والمؤسّسات العسكرية والأمنية المختلفة لتتولّى مهمة الأمن بقواها الذاتية على الحدود كما في الداخل.

كان ذلك يترافق مع تعاظم المخاوف اللبنانيّة من تردّدات الأزمة السورية وانعكاساتها السلبيّة والتي بلغت ذروتها بالإعتداء المفاجئ لمجموعات المسلَحين من «الجيش السوري الحر» و«النصرة» في عرسال في 2 آب 2014، لتزيد الطين بلّة في مرحلة غرق فيها اللبنانيون في بحر النزوح السوري المبرمَج الذي ألقى بأثقاله على لبنان واللبنانيين في وقت لم يشهد فيه البلد موجات نزوح على شكل نكبة حقيقيّة تجاوزت نكبة فلسطين في منتصف القرن الماضي.

ولا يُخفى على أحد، ما بلغه التشكيك في الهبة وصدقيّتها وإمكان تنفيذها مع الزيارة التاريخية للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الى الرياض للقاء الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز وأركان القيادة العسكرية السعودية للبتّ في ما سمّي صفقات العصر الفرنسية – السعودية بعدد وافر من المليارات، وقد شكّلت الهبة لصالح الجيش اللبناني أصغر الصفقات التي عقدتها المملكة مع الفرنسيين في تلك الزيارة.

على هامش النقاش في تلك المرحلة كان الحديث يتنامى عن قرار سعودي بتنمية العلاقات العسكرية بين المملكة ومختلف الدول المصنِّعة للأسلحة خارج إطار منظومة السلاح الأميركي في ظلّ التوتر الذي لم يكن خافياً على أحد بين الرياض وواشنطن في مراحل عدة، من سحب السعودية فوزها بالمقعد كممثل لكتلة الدول العربية لصالح الأردن في الأمم المتحدة، قبل أن تنفجر العلاقة بينهما على هامش المفاوضات الأميركية – الإيرانية.

وقد ظهر ذلك جلياً عبر الاتفاقات السعودية – الفرنسية ومثيلاتها مع ألمانيا وبريطانيا والسويد والبرازيل لبناء مجموعة الأساطيل السعودية والتي ظهر جانبٌ كبير من حجمها الضخم إبّان «عاصفة الحزم» التي قادت فيها الحلف العربي – الإسلامي والخليجي على اليمن.

ويقول العارفون الذين رافقوا تلك المرحلة من المفاوضات المثلَّثة الأطراف السعودية – الفرنسية – اللبنانية إنّ الجانب الفرنسي أصرَّ على أن تكون الهبة السعودية على شكل اتفاق من دولة الى دولة، فلا تبقى مجرّد هبة يمكن التراجع عنها في أيّ مناسبة.

وقالت المصادر يومها إنّ أحد القادة الكبار في قطاع الصناعة العسكرية الفرنسية أصرّ على توقيع وزير المال السعودي إبراهيم بن عبد العزيز بن عبدالله العساف، الصفقة بتكليف من مجلس الوزراء السعودي بطريقة متقنة أخفت خلفها تجارب لا يمكن للجانب الفرنسي القبول بتكرارها.

كثر قرأوا يومها الخطوة الفرنسية سلباً، خصوصاً أنها انعكست تأخيراً في توقيع العقود الى أن فهمت الأسباب الموجبة لها. فالجانب الفرنسي أراد ضمان الهبة على أنها «صفقة مشروعة» لا تقف عند حدود «مكرمة» أو «هبة ملكية شخصية»، ووجب حمايتها من «غدرات الزمان».

فقد كان العاهل السعودي الراحل يعدّ أيامه وكان الحديث عن سماسرة الأسلحة يقضّ مضاجع الفرنسيين بعدما فاحت من العقود العسكرية في العالم روائح العمولات التي يُحاكم فيها على الأراضي الفرنسية وسطاء لبنانيون وفرنسيون.

على هذه الخلفيات، يبدو أنّ المسؤولين اللبنانيين مطمئنون إلى الهبة والآلية المرسومة والمبرمَجة لتزويد الجيش بما طلبه من أسلحة، وإن تأخّر تسليم بعضها فهي قيد التصنيع. لذلك ستبقى محاولات التشويش قائمة الى حين طالما هناك مَن يسمح لنفسه المضي في مواقفه على قاعدة أنّ «الغايات تُبرّر المحظورات».