IMLebanon

يلدريم العائد من موسكو: الإقتصاد… ثمّ ما تبقَّى

د. سمير صالحة

التقليد المُتّبع في السياسة الخارجية التركية أن تبدأ أوّل زيارة يقوم بها رئيس الوزراء الجديد بن علي يلدريم إلى الخارج، من قبرص التركية وأذربيجان، لكنّ يلدريم اختار موسكو لتكون أوّل هدف حقيقي له، في رحلة خارجية يقوم بها بعد أكثر من 7 أشهر على توَلّيه منصبَه.

ذكرَ يلدريم قبل توجّهه إلى العاصمة الروسيّة أنّ السياسة الخارجية ليست اختصاصَه الأساسي كونه مهندساً، ويتكلّم في المشاريع الإنمائية التجارية الاستثمارية العملاقة قبل كلّ شيء، لذلك قطع الطريق باكراً على احتمال توجّهه لبحث ملفات سياسية امنية، بدليل أنّه لم يصطحب معه في زيارته هذه وزيرَي الخارجية والدفاع مثلاً، لكنّه لم يتردد عندما ابلغ الروس أنّ فكرة التخلي التركي عن العضوية في الاتحاد الأوروبي غير مطروحة الآن حتى، ولو كان البديل عضوية شنغهاي او العروض المغرية لتركيا في الجانب الآسيوي.

لم يكن سهلا ًعلى رئيس الوزراء التركي ان يكون منصرفاً لحزمِ حقائبه الى موسكو، وأن تصله انباء استخدام السفير الروسي في الامم المتحدة حق النقض ضد مشروع قرار، يفتح الطريق امام وقف القتال في حلب وتأمين وصول المساعدات الى المدنيين المحاصرين هناك، وأن يقف امام الإعلام الروسي ليشيد بمواقف القيادة الروسية الحكيمة، التي قررت إعادة الأمور بين البلدين الى سابق عهدها، وتلافي الوقت الضائع بسبب التوتر في العلاقات، وأن يعلمه أعوانه في اللحظة ذاتها أنّ هجوماً جديداً نُفّذ ضد الجنود الأتراك امام مدينة الباب السورية الذي تُعرقل روسيا تقدمَهم ودخولهم إليها، بعدما أشعلت الضوء الأخضر أمام التقدّم التركي في شمال سوريا، وكأنّها تحاول جرَّ الأتراك إلى هناك لتَركهم وسط المستنقع السوري.

المتابعون الأتراك للدبلوماسية الروسية يقولون عنها إنّها تحاول دائماً أن تبدأ التفاوض مع الطرف الآخر بعد رفعِ حصتِها جانباً، ليكون النقاش والمساومة في حصة الآخر وما يمكن انتزاعه منها.

هي في سوريا أخذت ما تريده من ضمانات سياسية وأمنية، وتساوم الجميع على ما يمكن ان يقدّموه لها من تنازلات، في إطار صفقات تعقدها مع من تختار. بن علي يلدريم يبحث مع فلادمير بوتين مسألة إعادة العلاقات التجارية والاقتصادية الى ما كانت عليه، والرئيس الروسي يعطي أوامرَه من دون تردّد في استمرار قصفِ المقاتلات الروسية للمدن الروسية، وهو ما ندّدت به أنقرة باستمرار.

القيادة السياسية التركية تعمل على فتح الطريق أمام حوار روسي مع قوى المعارضة السورية العسكرية في الداخل، وموسكو تقول إنّها جاهزة للبقاء أمام الطاولة، لكنّها في مكان آخر لا تتنازل عن مطالبة أنقرة، بعدم الخلطِ بين ما يجري وبين موقفها الثابت الداعم للنظام في سوريا، واعتبار كلّ مَن يصرّ على البقاء في حلب من المسلحين إرهابياً، لا بدّ من القضاء عليه في إطار تحرّكِ الدفاع عن النظام في سوريا.

روسيا في موضوع رفعِ الحظر عن السِلع التركية لم تقدّم الكثير بعد، إذ اكتفَت بالسماح لخمسة اصناف من اصل 16 صنفاً كانت على لائحة الممنوعات من الدخول إلى أسواقها بعد توتر العلاقات في تشرين الثاني من العام المنصرم.

روسيا حصلت على ما تريد في موضوع تحريك مشروع «السيل التركي» لنقل الغاز الروسي عبر تركيا، ومحطة الطاقة النووية «اك كويو» في

مرسين المطلة على المتوسط بقيمة 44 مليار دولار، وهي بعد ذلك ستفتح الطريق امام البندورة التركية لدخول اسواقها.

لكن تركيا تقول إنّها ستكون الرابح الاكبر في المشروعين على المدى الطويل في سدّ احتياجاتها من الطاقة، ولعبِ الدور الاستراتيجي الإقليمي في نقلِ الغاز الروسي من الشرق الى الغرب. في النهاية، المصالح الاقتصادية والتجارية للبلدين هي التي ستفوز حتماً، وربّما بعدها تأتي بقية الملفات السياسية والأمنية الإقليمية.

إذاً لم يُترجَم الانفتاح التركي الروسي الى تعاون سريع في الملف السوري تحديداً، فإنّ العديد من الأقلام ووسائل الإعلام ستتمسّك بطروحات «مقايضة حلب بالباب» في الحوار بين البلدين، على رغم أنّ لا ضمانات تُقدّمها موسكو لتركيا في مسألة الباب نفسِها.

فهل مِن المعقول ان تكون تركيا تحسن علاقاتها مع روسيا بهذه السرعة من دون ان تأخذ بعين الاعتبار ارتدادات ما تقوم به موسكو في سوريا عليها هي؟ ربّما اهتزازات الاقتصاد التركي الأخيرة هي التي تفرض هذه الواقعية الجديدة في السياسة الخارجية التركية.

لكنّ أنقرة تدرك تماماً أنّ انفتاحها الاقتصادي على روسيا عرضةٌ للتراجع والتدهور في أية لحظة بسبب سياساتهما المتباعدة في سوريا، واستعداد لاعبين محليين وإقليميين كثُر لتعطيل هذا التقارب كما حدث في مسألة إسقاط المقاتلة الروسية.

علينا أن نأخذ في عين الاعتبار أيضاً أنّ تركيا قالت دائماً إنّ ما تقدّمه من دعم للمعارضة السورية لن يتوقف، وأنّ خطتها في شمال سوريا لا تَراجُع عنها، وأنّ الخطوة المقبلة هي الباب ومنبج، في حين تقول روسيا إنّها تريد المزيد من الوقت لتقديم العون لأنقرة في تحديد مَن استهدفَ قواتها جوّاً في الباب قبل أسبوعين.