IMLebanon

لماذا نعيش ثقافة الشتائم؟ (بقلم الدكتور جورج شبلي)

 

كتب الدكتور جورج شبلي

لمّا كان بعض أبناء الصفّ الواحد في وطننا مُقَيَّداً بِخَلفيّة مُغلَقَة، وصلت إليه بالوراثة وبالممارسة العقيمة، كان لا بدّ من توجيه كلمة ليست بالنصيحة ولا بالوَعظ، بل انطلاقاً من مفهوم الإنفتاح وفنّ الإصغاء. فالتراشق بالشتائم ليس حلاً، بل هو تعميق أَرعَن للتباعد وصولاً الى العدائية الممقوتة. والكلمة هذه تتوجّه الى جميع الفئات العُمريّة، ولا سيّما الفئة الشابّة لئلاّ تدرجُ بها العادة الى تَبَنّي الأفكار المُسبَقة على غير هداية منها.

في البداية ينبغي الكلام على تحديد موضوعي لكلمتين تبدوان في الظاهر متشابهتين، لكنهما بعيدتان الواحدة عن الثانية بحيث لا توجد علاقة قرابة بينهما . لكننا في استخدامهما نجعلهما ندَين، يمكن للواحدة ان تحلَ مكان الأخرى، وهنا يكمن الخطأ . فالخلاف معناه الصراع والشجار والخصومة والمنازعة، اما الأختلاف فهو التباين والتنوَع وعدم التطابق .

لقد نشأ مجتمعنا على ثقافة يسود فيها الخلاف الذي ترسَخ في اللاوعي الجماعي، وذلك بسبب ظروف رافقت هذه النشأة . وبدأت هذه الثقافة داخل الأسرة نفسها حيث يفرض الأب رأيه على الجميع ويتخذ قراراته وحده، ويجعل الآخرين يتبنون هذه القرارات من دون مناقشة . ثم انتشرت العدوى في المجتمع عموما. فراح الواحد منا يفرض رأيه على الغير وكأنه يحاول ان يجعل الناس يبدَلون اشكالهم بشكله، من دون ان يعي ان توحَد الآراء مستحيل وكأن الناس جرى صبَهم في قالب واحد . ولأن المجتمع كلَ لا يتجزأ، طاولت هذه الثقافة ايضا الحركة السياسية، على مستويي النظام والساسة، فاعتبر كلام الزعيم السياسي مقدسا او منزلا وحقا مطلقا وحقيقة، بمعنى انه لا يجوز مناقشته أو ابداء ملاحظة عليه، وهي حال بعض رؤساء الأحزاب المَيامين. وساهمت الزعامات الأحادية، ولا سيّما المتوارَثة منها، في ترسيخ ثقافة الخلاف، فتبنَاها مجتمعنا ورفض الأختلاف شكلا ومضمونا . ان منحى فرض الرأي توارثناه جيلا بعد جيل، فشاع هذا الخلل المرض حتى ألفناه، والمشكلة أننا نرفض العلاج.

ان الأختلاف حالة حتمية، والناس لم يخلقوا على نموذج واحد لكنهم متفاوتون، فكل انسان هو نموذج خاص في فكره . ولما كان التعبير عن الرأي حقا من حقوق الأنسان ومصانا بالدستور والقوانين والشرعة الدولية، ولما كان الأختلاف في الرأي ظاهرة فكرية متقدَمة، أصبح من الضروري تربية المواطن على ثقافة الأختلاف وتقبَل الرأي الآخر . ان ثقافة الأختلاف تعني احترام كل وجهة نظر أو موقف أو رأي مهما كان مخالفا لآرائنا، أو هي اعتراف بالرأي الآخر وبان الجميع سواسية في حرية الفكر والمعتقد والقناعات. ان ثقافة الأختلاف تعارض ثقافة الإلغاء والإقصاء والتي تمارسها الأنظمة الخائفة والأحزاب الخائفة, اذ تعتبر ان كل مَن يخالفها الرأي هو “عدو” يجب أزالته .وبالتالي فثقافة الإقصاء انتجت شرائح منافقة متحجَرة، معها ينعدم كل امل في اي تطور حضاري، ويجعل المجتمع فاقدا لروح المبادرة وللانتاج الفكري.

من بديهيات الديمقراطية ان نحسن الأختلاف وان نتخلى عن الأفكار المسبقة والمواقف الجامدة  وان نقتنع بان كل تعارض في الآراء هو غنى، وبان التنوَع هو أمر ايجابي اذ ينير جوانب عديدة في الفكرة الواحدة . ان المطلوب، وبألحاح، تنشئة على ثقافة الأختلاف والنقاش في بيئة سليمة تعترف بالرأي والرأي الآخر، وتعتبر الأختلاف سنَة وجودية ومن طبيعة الكائن البشري .فتغدو ميزة احترام الرأي الآخر واحدة من القيم التي تكوَن متطلبات التطور الفكري والحضاري.

ان واقعنا أفرز بعض الزعماء السلطويين التلقينيين منخفضي المستوى على صعيد تقبَل الرأي الآخر، يمارسون سياسة الفَرض الفوقية، وبهذا يفتقرون الى سلامة التفكير ويتصفون بالنرجسية المَرَضية. من هنا اصبح المجتمع الذي يتبع هؤلاء المُعَقَّمين “متشرنقا” محجوزا في قمقم آرائهم، يستعيدها عن غير وعي، ويدافع عنها وكأنها اللوح المكتوب . لذلك، فان تعميم ثقافة الأختلاف يشكل حلا لا بديل منه يسعى الى تعرية الخلفيات، والى بناء حيثية عنوانها الرأي الآخر . ان احترام الرأي الآخر هو موقف شجاع و ضرورة لتمتين المشاركة، وهو حال نضوج لتحديث المجتمع. أوليس التقدَم يقوم على التشاركية والتفاعل بين المختلفات؟

ان تعددية الآراء ظاهرة حضارية ايجابية تعني تجاوز السلطوية الى الديمقراطية

لذلك، علينا جعل ثقافة الأختلاف مهارة مكتسبة، وفكرة تَقبَل الآخر ممارسة عملية، واعطاء الرأي الآخر المساحة نفسها التي لرأينا، فتَلاقُح الأفكار المتباينة يُنتج دائما اثراء انسانيا ووطنيا، ولا سيّما في عِداد المُلتَزِمين بمبادئ وطنية واحدة.