IMLebanon

ريفون تستعد لوداع “الوكيل الأمين”… “زادو القديسين”!

كتبت ناتالي اقليموس في صحيفة “الجمهورية”:

تستعد ريفون، مسقط رأس المثلث الرحمة الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، للمشاركة في وداعه، كالعاقلات الخمس اللواتي هيّأن مصابيحهنّ لملاقاة العريس، وأخذن معهنّ زيتاً لعله أبطأ في الوصول. إستثنائية ريفون في حزنها الذي يَضجّ فرحاً، إستثنائية في دمعة أهلها التي تفوح رجاء، وفي حسرتهم التي تنضح فرجاً بالقيامة. على مسافة ساعات من الوداع الاخير، قصدت «الجمهورية» بلدة ريفون حيث منها انطلق صفير وتدرّج في الكهنوت إلى أن توّج بطريركاً.

مثل «الوكيل الأمين» وبنظرات ثاقبة تستشرف المستقبل، يستقبل البطريرك مار نصرالله بطرس صفير زوّار بلدته ريفون في صورة عملاقة رُفعت له قبالة مبنى البلدية، وقد دوّن عليها العبارة التي زاوجت اسمه طوال مسيرته «مجدُ لبنان أعطي له».

«عرس وطني»

وفيما ينشغل عمّال البلدية في غرز أعلام لبنان والفاتيكان على امتداد أعمدة سوق ريفون، كان رئيس البلدية جورج صفير يُتابع من مكتبه في البلدية بعض القضايا اللوجستية للمشاركة في «العرس الوطني» يوم غد، على حد تعبير الاهالي الذين التقيناهم.

في هذا السياق، يُعرب جورج صفير عن مدى افتخار الاهالي لسنوات طويلة بابنهم، فيقول في حديث لـ«الجمهورية»: «لا شك في اننا كنّا نتمنى لو يمر جثمان البطريرك في مسقط رأسه، ولكن بعد مراجعتنا لبكركي وللمسؤولين عن تنظيم الوداع الاخير، تبلّغنا أنه يتعذر عليهم تخصيص بلدتنا بمحطة خاصة، لاسيما انّ مسيرة نقل جثمان غبطته لن تشهد أي توقف إنما فقط تتمهّل امام الحشود الذين سيتوزعون على امتداد الطريق وصولاً إلى الصرح».

ويضيف: «صحيح انّ غبطته هو ابن بلدتنا إلّا انه بطريرك كل الوطن، لذا استسلمنا للواقع والتنظيم، وقررنا مع الاهالي التجمع والتوجّه كعائلة واحدة صباح غد (اليوم) للمشاركة في استقبال جثمانه في بكركي وإلقاء النظرة الاخيرة عليه، كما سيُخصّص قداس لأبناء ريفون وأهاليها عند الساعة 11 صباحاً في بكركي يترأسه راعي الابرشية المطران بولس روحانا وتخدمه جوقة رعية مار روكز ريفون».

ويتوقف جورج صفير عند العلاقة الوطيدة التي جمعت المجلس البلدي مع غبطته مُستذكراً توصياته، قائلاً: «منذ 9 سنوات وأنا في سدة رئاسة البلدية، ولكن قبل تلك الفترة كنت عضواً، ومع كل انتخابات واستحقاق كنّا نتعمّد أن تكون أول زيارة لسيّدنا لتَلمّس بركته».

ويضيف: «أبرز ما كان يوصينا به هو الوحدة، فكان ينبذ الخلافات في البلدة، إلى حد انه يوم قرر أهالي ريفون أن يزوروه لتهنئته والمباركة له، قال: «بِستَقبل ريفون وِحده مش 2 ريفون»، إشارة منه إلى أهمية توحّد الاهالي والمشاركة ضمن وفد واحد».

ويتابع: «لا شك في انّ ريفون تحتل مكانة خاصة في قلب الراحل صفير وغالباً ما تألمّ لانقسامها، فهي احتضنت منزله الابوي الذي حَوّله إلى مركز صحي في عهدة كاريتاس وفي خدمة أبناء المنطقة والجوار»، مشيراً إلى انّ «غبطته كان دائماً مطّلعاً على أوضاع أهل البلدة، ويُشاركهم أفراحهم وأحزانهم سواء بمشاركته الخاصة أو عبر إرسال ممثلين له».

هو مرجع في السياسة واللغة

وخلال حديثنا مع جورج صفير، صدف وجود أحد أبرز الوجوه الكسروانية، وهو مهندس رغب المشاركة في الحوار من دون ذكر اسمه، فقال: «أهمّ ما تركه البطريرك صفير انه علّم لبنان كيف عليه أن يعمل سياسياً، وانّ الحفاظ على الهيبة هو الحفاظ على الكيان. الراحل صفير علّم لبنان أن ينال الكثير من دون أن يتسوّل شيئاً. من دون أن يطلب شيئاً نالَ كل شيء، وهذه يجب أن تكون سياسة لبنان، فما تركه أشبَه بالوصية الكبرى للسياسة اللبنانية التي يجب أن نَنتهجها».

ويضيف: «غبطته كان سريع البديهة ويحفظ بسرعة مدهشة، ومخضرم في اللغة العربية لا يُخطئ لا صرفاً ولا نحواً. ذات مرة ألقى على مسامعه أحد المحاضرين في جامعة القديس يوسف 30 بيت شِعر، وسرعان ما ردّد الابيات وسط ذهول الحاضرين».

وأضاف: «سأله أحدهم، لماذا تقول الهُويّة وليس الهَوية، فأجابه: «هُوية تأتي من هو، لذا يجب أن تحَرّك بالضمّة».

ذاكرة رهيبة

غادرنا البلدية، وكان لنا جولة على أصحاب محلات أبناء ريفون الذين لم يترددوا في رفع صور غبطة البطريرك صفير على جدران محلاتهم، أرزاقهم، سياراتهم، لأكثر من اعتبار: «صورتو بتعطينا البركة»، «إسمو بيحيينا»، «هو صخرة من لبنان»، «لولاه كانوا خِلصو المسيحيين من زمان»… يُجمع الاهالي على أهمية مشاركتهم في وداع البطريرك صفير على اعتبارهم «نحنا أهل العريس» وغداً يوم للتاريخ».

يكنّ أهالي ريفون للبطريرك صفير محبة لا تحدها حدود، ولكن لمعرفة تفاصيل أقرب عن غبطته، كان لا بد من زيارة مختار البلدة منصور حنا صفير، الذي صدفَ أنه يراجع ألبوم صور يحوي أرشيف البطريرك، فاستذكرنا معه أبرزها.

إنطلق حديث المختار من مدى تأثره بالبطريرك صفير يوم كان إكليريكياً يحرص على تعليم الدين لطلاب البلدة، فقال: «كنت أحد تلاميذه، كان يحضر إلى ريفون ويعلمنا التعليم المسيحي. لم يكن يمازحنا، بل كان جدياً حريصاً على عدم إهدار الوقت، وكان باله طويلاً جداً. بصراحة كنّا نشعر أنه أنضج من عمره، نشعر برهبة استثنائية، كنّا نراه منذ البداية بطريركاً».

ويضيف: «لم تكن أسرته ممنونة أن يدخل الكهنوت خصوصاً انه وحيد على 5 شابّات، لكنّ المطران حنا الحاج، رحمه الله، قام بمساعدته آنذاك، ودخل في مسيرة الكهنوت».

وأضاف: «خدم غبطته 6 أشهر في رعية البلدة مار روكز ريفون، كانت عظاته تخطف الانفاس، ومقاربته للقضايا جداً مميزة، بالإضافة إلى شدة بلاغته في التعبير».

وتابع: «تأثرتُ به كثيراً إلى حد أنني كتبت له رسالة وانا في العاشرة من عمري أصرّح فيها انني أريد أن أصبح كاهناً مثله. وبعد سنوات التقيته وكان قد أصبح مطراناً، فبادرني بالقول: «ألستَ أنت من كان يريد ان يصبح كاهناً؟ أجبته «بلى من زمان»، فرَد ضاحكاً: «ما هيئتكش بَدّك!»، وأضاف: «غبطته لا يستخفّ بأحد، يقدّر الصغير والكبير. تأكدتُ يومها أنه قرأ رسالتي، وذاكرته المخيفة جداً بقوّتها تسجّل أصغر التفاصيل وأكبرها».

صحيح أن البطريرك صفير عاد إلى الذي أرسله، ولم يعد بوسعنا رؤيته الآن. ولكن حتماً سنعود ونلتقي وينقلب حزننا فرحاً، متسلّحين برجاء القيامة.