IMLebanon

“انتي مين”.. دراما مسروقة!

كتب جوزف طوق في صحيفة “الجمهورية”:

جارتنا ليست ناقدة فنيّة، جارتنا مديرة مدرسة محترمة، ويبدو من نافذة غرفتي التي تطلّ على صالون بيتها، أن كلّ ما تهتمّ به في حياتها هو زوجها المُقعد وأولادها الخمسة… لكن خلال شهر رمضان، لاحظت أنّ شيئاً تغيّر في عادات هذه السيدة وعائلتها، كما لو أنّ الساعة 9:30 مساءً أصبحت مثل موعد القداس نهار الأحد. وكنت من نافذتي أرى أنّها كانت تترك من يدها كل شيء تفعله، حتى لو كانت سندويشة إبنها أو تغيير حفاض إبن ابنتها، وتهرول إلى الصالون لتنير التلفزيون وتشاهد مسلسل «إنتي مين». كانت كلّما تجلس أمام الشاشة وكأنّها تلتقي أحباباً بعد غياب، وتسمع أحاديث بعد انقطاع، وتشاهد أحداثاً كانت تلفتها لسنوات في الشارع واكتشفتها للمرّة الأولى في الصالون.

ومثل جارتي.. أمّي، وخالاتي، وأصدقائي، وتقريباً كل من التقيتهم خلال رمضان، كانوا يتحدّثون عن مسلسل «انتي مين»… كنّا جميعنا نسأل أنفسنا، نحنا مين؟ الممثلين مين؟ الكتّاب مين؟ الدراما مين؟ النجوم مين؟

وبعد كلّ حلقة، كنّا ننتبه الى أننا زهقنا من قصص الحرب وكثرة استهلاكها في السينما والتلفزيون… وكنّا ننتبه أكثر أنّ هناك شيئاً لم نتكلّم عنه بعد، شيئاً باقٍ داخلنا من الحرب غير الحرب، هناك دمار داخلنا، داخل أجسادنا ونفسياتنا وعائلاتنا، دمار في علاقاتنا وحقيقتنا… كنّا ننتبه ونشاهد، وننتظر الموعد كل ليلة ليس لنتابع ممثلين وممثلات وأبطالاً وبطلات، وإنما شوية جيران هربانين من أحيائنا ليخبروا قصصنا على الشاشة، ليتكلّموا بصوتنا ويعبّروا عن خوفنا وفرحنا وأملنا وخيباتنا التي نجرجرها مثل شنط السفر من بلاط البيت إلى الزفت.

خلعت الكاتبة كارين رزق الله جلد الروتين الدرامي، وسرقت بكل وقاحة تفاصيل قصّتها وكلمات نصّها وحوارها من أفواهنا، سرقتها من واقعنا ويومياتنا.. ولكنّها وضعتها باسمنا جميعاً في مسلسل أبطاله من لحمنا ودمنا، ولسان حالهم من جوارير منازلنا. كتبت كارين ليس لتنصر بطلاً على ظالم، وإنما لتنصر الواقع على الفانتازيا، ولتردّد في كلّ حلقة أنّ هناك دراما منتجين، وهناك أيضاً دراما كتّاب ومخرجين، فاختارت الثاني وجعلتنا نحن الأبطال.

وبعد كارين، أعاد المخرج إيلي ف. حبيب كتابة النصّ بالعدسة، وكانت كاميرته تتحرّك طوال الوقت كما لو أنّها تبحث عن نوتة ناقصة لتكتمل المعزوفة. قاد حبيب اوركسترا من الكادرات والألوان والإضاءة وحركة الكاميرا السلسة، فأدخلنا بالصورة إلى حالات أبطاله النفسية، وأرغمنا أن نتفاعل مع مشاعرهم ونسافر إلى عوالمهم.

لم يتفرّد «إنتي مين» بنصّه الواقعي اللافت والمؤثّر فقط، وإنما استطاع المسلسل تأكيد الثنائيات النسائية في البطولة، فخلق علاقات غرامية إبداعية بين الممثلات (عايدة صبرا وجوليا قصّار – كارين رزق الله وأنجو ريحان) وليس بين الشخصيات. وتمكّنت هذه الثنائيات من تثبيت عبقرية جوليا قصّار وعايدة صبرا، وكنّا نستمتع في مشاهدهما بمتابعة الأستذة في التمثيل، ونتأكّد في كل كادر أن الممثل ليس فقط من يعرف كيف يمثّل ولكن من يعرف كيف يصغي جيداً ليحيي قدرات الممثّل الذي في وجهه، ومعهما تابعنا مجموعة من أجمل مشاهد السباق الرمضاني.

«انتي مين» نبش جرار إبداع نقولا دانييل، وكرّسه شيخ الدراما اللبنانية بلا منازع. فهذا الذي لطالما منحه المنتجون أدواراً تقف خلف حبال حلبة المصارعة، قفز بدوره إلى داخل المبارزة وأثبت بجدارة أنه سكران بالتمثيل.

وفي المسلسل تفتّحت وردة أنجو ريحان، فتميّزت بقدرتها على عدم الانتباه إلى الكاميرا والدور، وكانت تعيش بحركة جسدها وكلماتها وانفعالاتها حالة خاصة تأخذنا في كلّ مشهد إلى الواقع الذي يعيشه كاراكتيرها.

ومن يقدر أن يعاتب كارين رزق الله إذا سرقت نصّها من واقعنا، طالما أنّ العمل سرقنا من حالنا، وبرهن لنا كم نحن متعطّشون إلى قصص تشبهنا ونشبهها، إلى أبطال وبطلات يمشون على الأرض مثلنا وليس فوق نصوص رخامية. وإذا سألنا في النهاية كارين إنتي مين؟ لازم تجاوبنا أنا عرفت إنتو شو عايزين.