IMLebanon

لا “حكومة مهمة” بعدما تغيّرت قواعد الإشتباك!

تكشف الإتصالات التي جرت، أو التي تجري، أو ربما ستجري غداً أو بعد غد، من أجل تأليف حكومة «مهمة» من الإخصائيين، ومن غير الحزبيين، ولكن يمثلون طوائفهم، او التيارات الطائفية التي تقف وراءهم، من ضمن ما اصطلح على تسمية «بالمبادرة الفرنسية» أو مبادرة الرئيس ايمانويل ماكرون، الذي تسبب فايروس كورونا، بإصابة مبادرته، في المرة الثالثة، وربما أدخلتها في «علاقة دائمة»، وإن بقي «المتوجهنون» اللبنانيون، يتحدثون عن زخم المبادرة، ويعتبرون مواقفهم، على اختلافهم، على صورة المبادرة «الاليزية» ومثالها.. تكشف هذه الاتصالات عن عمق مأزق النظام في لبنان، ربما بصورته الوجودية (ظهور لبنان من الصغير الى الكبير) الى أزمة توازناته الطائفية، منذ العام 1919 (مؤتمر فرساي) الى إعلان الولادة من قصر الصنوبر في بيروت، قبل قرن كامل ونيّف (ما لا يقل قليلاً عن أربعة اشهر، وهو عمر مبادرة ماكرون).. الى ازمة القيادة فيه، او ما يمكن وصفهم برجال الدولة..

(هنا تطرح المشكلة هكذا: كيف شكلت الأجزاء أو النتف الجغرافية، والديمغرافية، والطبقة، كلَّا (Le tout) بقي مجزأ، ولم يتمكن من يكون كلاًّ قوياً، قادراً على مواجهة العواصف العاتية.. والكل: دستور، مؤسسات، دولة، قضاء، جيش، تعليم عام..مجتمع، شعب الى آخر التسميات التي تعبر عن كلّ في مجتمع بشري ناشئ، أو متأصل..

بلحظة خلافية، يتقدم الى الواجهة رجال هذه الطائفة أو تلك، وهذا المذهب أو ذاك، يندفعون الى المشهد، كرجال طوباويين، أين منهم القديسون، والنساك، ورجال الصوفية في الاسلام.. يتسلقون بعناصر عدة، من الذكاء، الى التعصب الطائفي او المذهبي الأعمى، وربما الظروف، وأحياناً بقوة الحديد والنار، وتحت جائحة الاعلام، المنغمس والانضواء في خدمة أهدافهم.

لا حاجة، لاستعراض شواهد تاريخية، جلّ ما في الأمر، ان تاريخ لبنان، هو تاريخ تقلبات وتغيرات، في لعبة الغلبة بين طوائف الكثرة والقلة، بين الكبرى والصغرى.. بين الهيمنة والقلق، أمَّا ما يحكى عن شعارات من «الأقوياء في طوائفهم»، الى ميثاقية الطوائف، الى التوازنات، وحقوق الطائفة، فهو أشبه بطبل أجوف، الغاية من الضرب عليه ايقاظ الغرائز النائمة..

عصفت شعارات «أمن المجتمع المسيحي فوق أي اعتبار» بقلاقل لم تتوقف، إلَّا بعد اتفاق الطائف، الذي انتجته حروب صغيرة وكبيرة منذ العام1969 (تاريخ اتفاق القاهرة) الى عام 1982 (تاريخ الغزو الاسرائيلي للبنان ودخول عاصمته)، والذي أدخل لبنان في عصر، على حساب عصر أو عصرين خليا (العصر الفلسطيني والعصر السوري)..

قال حينها الأقوياء في طوائفهم من المسيحيين ان الطائف، أدخل المسيحيين في الاحباط، الى ان جاء الارشاد الرسولي على يد البابا يوحنا بولس الثاني (1996). وبدأت حقبة اعادة بناء التوازنات من خلاله لحقبة سلام في المنطقة، طال انتظارها بعد اغتيال رئيس وزراء اسرائيل السابق اسحق رابين، صاحب الوديعة الشهيرة، والتي ذهبت معه، فبقي الجولان محتلاً، وبقيت المقاومة الممثلة بحزب الله تقاتل نيابة عن لبنان وعن الجولان.. الى ان كان ما كان..

في سنوات عجاف عرفها لبنان، انهارت ركائز الطائف، بوصفه اتفاقاً، او تسوية تاريخية:

1 – قتل رفيق الحريري في 2005..

2 – في التاريخ نفسه انسحب الجيش السوري من لبنان (وسوريا حافظ الاسد كانت الضمانة على الارض لوضع اتفاق الطائف موضع التنفيذ).

3 – في السنة نفسها، انهارت معادلة س- س (او التوافق السعودي- السوري) التي كانت تضمن التوازنات الداخلية، بين المسلمين، وتعبّر من ضمن هذه التوازنات عن الحصة المسيحية بقوة نصوص اتفاق الطائف..

المتغيرات هذه، فتحت الباب امام ولادة طراز جديدة، من الأقوياء الطامحين داخل الطائفة المارونية، التي تفاخر بأن الفضل الاول لولادة لبنان، كان على يد المرجعية الروحية العليا، اي بكركي، فضلا عن رجالات جيدين من الذين اداروا الدولة في سنوات ما قبل اتفاق الطائف، او في عهد ميثاق الـ1943.

عاد ميشال عون الى لبنان، ضمن مشروع اسقاط الطائف، ولكن من الداخل، وليس بقوة الحديد والنار، وخرج سمير جعجع من سجن وزارة الدفاع، بعدما خرجت سوريا بشار الاسد من لبنان «مهيضة الجناح»، وتدمرت علاقاتها العربية، واللبنانية، قبل ان تكاد ان تهلك في خضم الحرب الدائرة على أراضيها منذ تسع سنوات ويزيد.

تحوَّل الربيع العربي الى وبال عربي، وغرقت دول المشرق والمغرب، في دوامة «حروب الطوائف»، وقادة الوحدات، وتعددت التسميات، من الارهاب الى الانقسام، الى استجرار التدخلات الخارجية.

بقيت الطبقة السياسية، بألونها الطائفية كافة، بمنأى عن التصدعات العربية، الى ان جاءت اللحظة الدولية والاقليمية والداخلية)  المؤاتية: احداث 17 ت1 (2019) احتجاجاً على زيادة سنتات طفيفة في الحكومة التي كان يرأسها سعد الحريري قبل استقالته في 29 من الشهر نفسه، تجاوباً مع مطالب حركة الشارع، في وقت اخضعت فيه ادارة الرئيس الاميركي، الذي قاربت ولايته على الانتهاء بقوة الدستور،إذا رغب،أو بقوة الإخراج عنوة، اذا «تمرد»! لبنان إلى خمسة نماذج من قوانين العقوبات الأميركية خارج حدود الولايات المتحدة ضربت مرتكزات النظام المصرفي، الذي يشكل حالة لصوصية، غير مبسوقة في تاريخ الرأسمالية الحديثة في العالم (سرقة اموال المودعين) والعبث بالنظام النقدي (الذي اطاح بالقوة الشرائية للمكلف او الموظف على حدّ سواء)..

وحدها الطبقة السياسية نجت من سيف التغيرات الكبرى، العاصفة بالمنطقة ولبنان، اخرجت اموالها الى الخارج من المصارف، واحكمت قبضتها على السلطة، بعد انهيار حراك 17ت1، وتفرق مجموعاته، وتشرذم تياراته وأنديته ومكوناته..

لا حاجة الآن، ولا المجال يسمح بمناقشة الأسباب والعوامل، ولكن النتائج واضحة، اطلاق يد أمراء الطوائف «القوية» في ادارة مرحلة جديدة من العبث بكل شيء.. المهم الخلاص الفردي، أو الجماعي لهؤلاء، القابضين على مقدرات الأمور..

ساهم انفجار 4 آب في مرفأ بيروت بفضح هشاشة دور المسؤوليات، للقيمين على الامن والحماية، والمؤتمنين على الأرزاق والأرواح.. وكان ما كان من اجراءات ساهمت في زيادة الوضع هشاشة، والعلاقات السياسية عفونة، والاهداف البعيدة ما وراء ما يجري وضوحاً..

شكل إدعاء المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت القاضي فادي صوان، على رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب، وعلى وزير المال السابق علي حسن خليل، ووزيري الاشغال السابقين غازي زعيتر (نائب حالي) ويوسف فنيانوس، بجرم الاهمال والتقصير والتسبب بوفاة وإيذاء مئات الاشخاص «سابقة عدلية وقضائية» قبل ان «تنغمس في ماهية «النظام الطائفي»، ويرتدي الادعاء ثوب المسّ الطائفي أو سواه من اوصاف ويقحمه البلد، الفارق حتى أخمص قدميه بالأزمات والانتهاكات، في ازمة من نوع أشد وأدهى مضاضة على النظام السياسي والقضائي في البلد..

هكذا، اكتمل مشهد الأقوياء في طوائفهم، يقاتلون، حتى القضاء، الذي يستنجدون به، حين يشاؤون، فيدعون على وسيلة اعلامية من هنا، ويعتقلون، بواسطة القضاء مغرّداً من هناك.. في لعبة، مكشوفة، وسافلة، وبكل الأوصاف غير الحميدة.

هنا، على المسرح الطائفي، يبرز دور جبران باسيل، الناشط، في زمن الوصاية، والمنتسب الى السياسة بالمصاهرة، وربما بالإنتماء ايضاً، بعدما صار رئيساً لتيار اسسه العماد ميشال عون، ونائباً بقانون النسبية، الطائفي البغيض، ورئيساً لأكبر تكتل نيابي.. وقبل هذا وذاك، الحليف المؤسس لتفاهم مار مخايل مع حزب الله، من ضمن الفذلكات التي دأب عليها، بوصفه بارعاً وذكياً..

يتمثل دور الرجل، بتوظيف قوة حزب  الله في انهاك «الشريك السنّي» الذي أوكل إليه الطائف ادارة البلد، من ضمن مؤسسة مجلس الوزراء..

وهنا «بيت القصيد» في التعثر الحكومي.. اذ سيكون من الصعب، الذهاب الى «حكومة مهمة» بعدما تغيرت قواعد الاشتباك ومجريات اللعبة.. فالحكومة المقبلة، مرشحة في اي وقت لتحل مكان رئيس الجمهورية ،لأي سبب من الأسباب.. والحكومة المقبلة بصرف النظر عن حسابات حزب الله، ومقتضيات سياسته المقبلة، سواء جرى تعديل التفاهم (المعروف بتفاهم مار مخايل) أم لا.. او الاستنجاد فيه..

للعلم فقط، يخوض، باسيل معركته، في عزّ قوته المسيحية والنيابية، على قاعدة نكون او لا نكون، أما الحسابات الباقية، فهي تفاصيل، ولا بأس أن تذهب هباء منثورا.. بما في ذلك وحدة لبنان ومستقبل العيش فيه..