IMLebanon

اسرائيل أعلنت الحرب: غزة أو لبنان؟

كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:

مرة إضافية يثبت الشرق الأوسط أنه ساحة المفاجآت غير المحسوبة. فالامور كانت ذاهبة في غير اتجاه الى حين تنفيذ عملية «طوفان الأقصى»، والتي أخذت المنطقة برمتها الى مقلب آخر لا أحد يقدر على التكهن بآفاقه.

المسار السياسي الكبير الذي كان جارٍ رسمه، والذي أنتج الاتفاق حيال الطريق الاقتصادي-السياسي بدءا من الهند ومرورا بالسعودية فإسرائيل ومنها الى أوروبا، والذي يحمل في طياته ردا على «طريق الحرير» الصيني، كان من المفترض أن يستكمل بالتطبيع بين اسرائيل والسعودية لتنطلق حقبة جديدة قوامها اعادة رسم الخارطة السياسية للشرق الاوسط.

وجاءت عملية «طوفان الأقصى» لتطوي هذه الصفحة ولو مرحلياً.

من هنا لا يبدو واقعياً الحديث عن ظروف أمنية وعسكرية فقط في اطار اجراء قراءة معمّقة لما يحصل. لا شك أن ثمة خلفيات ما تزال مخفية لا بد من أخذها في عين الاعتبار، مع عدم تهميش اسباب الصراع الأسرائيلي-الفلسطيني.

ولا حاجة لتكرار ما أصبح حقيقة ثابتة حيال النجاح العسكري الباهِر لكتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس. دقة في تخطيط أخذَ ما يقرب السنة وبقي سرياً ونجح في تحديد نقاط الضعف الاسرائيلية، ومهارة وشجاعة في التنفيذ حيث أثبتت حماس قدرتها على التكيّف مع التحديات العسكرية التي لطالما دفعت ثمنها. فلقد نجحت حماس في التغلب على الآلة الاستخباراتية الاسرائيلية العريقة والمتطورة، وعلى اختراق السياج الحدودي الذي كلّف انشاؤه حوالى المليار دولار، وعلى ابتداع هجوم بري وبحري وجوي وهي المدرسة القتالية التي تميّز بها «حزب الله». ولذلك ربما هنالك من يرى بصمات للحزب في التحضير للعملية.

ولا مبالغة في الاعتبار بأنّ حركة حماس حققت أقصى ما يمكن في أقصر فترة ممكنة ارتكزت على عنصر المباغتة، لكن حماس تدرك سلفاً أن النتائج الكارثية على اسرائيل والتي تحققت لا تعني حتماً بأن الامور ستنتهي هنا.

بالأمس صادقَ المجلس الوزاري الاسرائيلي المصغر على ما كان قد أعلنه رئيس الحكومة عند بداية العملية بأنّ اسرائيل في حالة حرب. وهي المرة الاولى منذ العام 1973 التي تعلن فيها اسرائيل الحرب، رغم الحملات والمواجهات العسكرية التي حصلت من بعدها بما فيها اجتياح لبنان في العام 1982.

ولهذا الأمر دلالاته والتي تشير الى أننا ما نزال في البداية.

فإعلان حالة الحرب يعني اعلان حالة الطوارىء ووضع كامل مقدرات اسرائيل من بنى تحتية ولوجستية بتصرف الجيش ومتطلبات الحرب. وكذلك تجنيد قوات الاحتياط بشكل واسع، وفتح مخازن السلاح والذخائر الاميركية أمام الجيش الاسرائيلي. في الواقع لا تستطيع اسرائيل ولا الفريق الدولي المتحالف معها وعلى رأسه الأميركيين القبول بالنتائج التي تمخّضت حتى الان، ولا حتى بالاكتفاء برد كلاسيكي. والّا فهذا سيعني سقوط طريق الهند والحلف الناشئ عنه، وانفراط عقد ما تحقق حول اتفاقيات ابراهيم، واستطرادا نقل المنطقة بأسرها الى مكان آخر.

ومرة اضافية لقد نجح مخططو العملية في استغلال نقاط ضعف اسرائيل بشكل ممتاز، فعلى المستوى السياسي هنالك الانقسام الحاد حول نتنياهو، والذي ادى الى مواجهات داخلية حادة. وهنالك الضعف الكبير على مستوى القوة الاسرائيلية البرية وهذا ما ظهر بوضوح مع عملية «فيضان الأقصى». وزاد من حال الضعف لدى وحدات الجيش الاستقالات التي حصلت بسبب الازمة السياسية الاسرائيلية. كل هذه الفوضى قرأها جيداً أعداء اسرائيل ما هَيّأ ظروف العملية.

لذلك قد تسعى القيادة الاسرائيلية لاعادة توحيد الصفوف في ظل اعلان حال الحرب. مع الاشارة الى ان الاقتصاد الاسرائيلي لا يتحمل حربا من دون أفق زمني واضح.

وبغض النظر عن الدعم الأميركي السريع والصريح الا ان الاوساط الدبلوماسية لا تخفي خيبة واشنطن من الفشل الاسرائيلي المريع، خصوصا على المستوى الاستخباراتي. الواضح أنه ستكون هنالك أثمان سياسية ولجان تحقيق ومحاكمات بعد انتهاء الحرب. لكن الاهتمام الاميركي الان هو لإعادة تعزيز الترسانة العسكرية الاسرائيلية وهو ما يحظى بشبه اجماع داخلي. حتى بيرني ساندرز ممثل ما يعرف بالجناح اليساري داخل الحزب الديمقراطي والمعروف بمعارضته الدائمة لإسرائيل، أبدى تأييده ودعمه لها.

في الواقع لعبت الحرب الدعائية للعملية في عكس اهدافها. فمع نشر المشاهد للقتلى الاسرائيليين ولعشرات الأسرى وهو ما كان يهدف ربما للتأثير على المجتمع الأسرائيلي للجم أيّ ردات فعل عنيفة ومدمرة على غزة، بَدا أنّ هذه المشاهد أدت الى ردة فعل قاسية على المجتمعات الغربية وبالتالي التعاطف مع الاسرائيليين.

والارجح أن واشنطن ستتعامل مع الوضع من الزاوية السياسية العريضة. ذلك أن عملية بهذا الحجم وبهذا التخطيط وبهذه النتائج التي أُريدت لها، تبدو أكبر من قياس حماس. فهي بحاجة لغطاء دولي كبير، وهذا ما دفع لتوجيه الاصابع الى ايران.

فخلال المرحلة الماضية عادت ايران لترفع السقف. وعادت العلاقة الفتية والطرية بينها وبين السعودية تتأرجح. وبعد عودة السخونة العسكرية للحوثيين، سجلت زيارة وزير الداخلية الايراني الى حقل الدرة المُتنازع عليه بين ايران من جهة والسعودية والكويت من جهة أخرى. وفي المقابل ازدادت السخونة العسكرية في سوريا والتي سجلت ذروتها مع الهجوم الجوي الدامي والغامض على الكلية الحربية في حمص. كل هذه المؤشرات كانت تَشي بالعودة الى شد الحبال. ولكن لم يتوقع أحد أن تحصل عملية بهذا الحجم وبهذه النتائج الهائلة. ذلك أن الانطباع الفوري هو بأنّ من يقف وراء ما حصل يلعب «صولد». وهو ما عبّر عنه الرئيس الاميركي بقوله إنه آن الأوان لترك اسرائيل تذهب الى النهاية.

وفي استعراض سريع، لا شك أنّ موسكو التي تحتفظ دائماً بعلاقات جيدة مع اسرائيل ستبدو سعيدة ضمناً لاشغال واشنطن بالحرب في الشرق الأوسط وتخفيف دعمها واهتمامها بأوكرانيا، وخصوصا بتحويل جزء كبير من «مجهودها» الحربي الى اسرائيل بدل أوكرانيا.

ولا شك أيضا أن الصين التي تسعى واشنطن لاحتواء تمدّدها ومحاربة توسع نفوذها، ستكون مسرورة لتشتيت الانتباه والتركيز الاميركي واعادة البيت الابيض الى وحول الشرق الأوسط.

ولا حاجة لتعداد المكاسب السياسية لإيران خصوصاً انها شعرت بما يشبه تطوّقها من اسرائيل التي استعادت علاقاتها التنسيقية مع تركيا وفي الوقت نفسه تتأهب لإنجاز آخر مسارات التطبيع مع السعودية.

المهم الان كيف سيكون الرد الاسرائيلي أو شكل الحرب التي يُحضّر لها.

هناك وجهتان لهذه الحرب لا ثالث لهما. الأولى، وهي غزة. ولكنها عملية مؤثرة تحتاج لاقتحامٍ بَرّي كانت التقديرات العسكرية السابقة تشير الى كلفة لا تقل عن 500 قتيل تتطلّبها عملية برية لإعادة احتلال غزة. هذا اذا افترضنا أن الجيش الاسرائيلي قادر على استعادة توازنه، كما أن هنالك مشكلة الأسرى الذين يشكلون نقطة ضعف كبيرة للمجتمع الاسرائيلي. فهل تبدو اسرائيل مستعدة لدفع هذا الثمن؟

أما الوجهة الثانية فهي لبنان وايران سوياً. ذلك أن التقديرات الغربية تجزم بأن «حزب الله» سيتحرك بالتأكيد في حال قصف ايران. وعلى ما يبدو فإن اسرائيل كانت قد حازت كل المتطلبات اللوجستية والعسكرية المطلوبة لقصف المراكز النووية الايرانية. ولا شك أن هذا القصف في حال حصوله سيحرق ورقة مهمة تحملها ايران، وسيعطي وقعا كبيرا سيشكل تعويضا معنويا لإسرائيل. وسيعزز في الوقت نفسه العلاقات الناشئة بينها وبين دول الخليج. ولكن هذا سيستتبعه حتماً إطلاق الصواريخ من لبنان ما سيؤدي الى فتح الجبهة على وسعها.

وفي آخر المعلومات، أنّ الجيش الاميركي نشر طائرات للرصد والانذار المبكر تغطي كافة أنحاء الشرق الاوسط، كما انه حرّكَ قطعاً بحرية مزودة بأجهزة رصد حساسة ناحية كامل الساحل الشرقي للبحر المتوسط.

أيّاً يكن المسار الذي ستنحو باتجاهه الامور، الا أنه من الثابت انه سيكون مُلتهباً ومن دون أفق واضح.

انه الشرق الاوسط المعقّد والمتشابك، والذي تسخى فيه التضحيات والدماء.. هكذا يقول التاريخ.