IMLebanon

من وحي ذكرى كارثة 4 آب المدمّرة

 

‎كيف يمكن للمرء أن يقف صامتاً أو يبقى لا مبالياً أمام هول الكارثة وتداعياتها المستمرة؟

‎كيف يمكن للبناني أن لا ينفجر وهو يرى بأم عينه تدمير عاصمته بفعل إهمال أو عدم مسؤولية من سلمهم قيادة البلاد ومنحهم ثقته؟ كيف يمكن لمن تولى القيادة أن يتهرب من المسؤولية، أو يعفي نفسه من المسؤولية ومن المحاسبة؟

‎كيف يمكن أن يواجه ببرودة عيون المفجوعين والمألومين؟

‎ما هذا الغياب التام لشعور الطبقة الحاكمة بما ألمّ بمواطنيهم من مآسي وأوجاع؟ ما هذا التمسّك المرضي بالسلطة، مع ثبوت العجز، وعدم الإكتراث بما سببوا للبنان وللبنانيين من آلام وعذابات، أعمتهم السلطة عن رؤية الحق، وعن الإحساس بالناس الذين أفقدوهم آمالهم وأحلامهم، وحرموهم من كل ما يجعلهم يتمسّكون بالحياة، حرموهم من فلذات أكبادهم، من أطفالهم من أمهاتهم، من أسماعهم وأبصارهم، وحوّلوا حياتهم رماداً وسواداً ودخاناً وجحيماً.

‎وبعد، هم لا يريدون الاستعانة بالتحقيق الدولي، ويا للأسف، بحجة الحفاظ على السيادة الوطنية، وهم، هم من أسقطوا سيادة لبنان، أليسوا هم من حرم اللبنانيين الكرامة، وأفقدوا الدولة سيادتها وعزّتها ومهابتها، أَهَم أصحاب السيادة أم الشعب هو صاحب السيادة، أليس الشعب هو من فوضهم ممارسة السيادة، وأوكلهم، بثقته ممارستها، وهم، هم أنفسهم من تخلّوا عنها، فكيف ينصّبون أنفسهم اليوم حرّاساً للسيادة، ومدافعين عن السيادة، ويقررون عنه ما يحرم اللبنانيين من معرفة الحقيقة، وهي حق لهم، وهم، هم أنفسهم من كانوا السبب في تدمير حياة الناس، هؤلاء الناس المفجوعين الذين فقدوا كل شيء، ببراءة وبتواضع وسكون وصمت موجع، وهم يغرقون في أحزانهم، يلتمسّون فقط شيئاً من العدالة، من يدلهم على من أوصلهم إلى ما وصلوا إليه من دمار وبؤس وحرمان، ومن أفقدهم الحياة والرجاء والأمل، ومن أطفا النور في عيونهم، ونزع شعاع الحياة من قلوبهم، ولم يبقَ لهم شيئاً. ألا يستحق اللبنانيون معرفة الحقيقة لتهدأ النيران التي تشتعل في صدورهم؟ للأسف ما من حقيقة تعرف في لبنان، ما من مساءلة، ما من محاسبة.

‎ألم تكتفوا بما فعلتم بالناس، سلبتموهم أمنهم واطمئنانهم، وسلبتموهم أموالهم ومدخراتهم، وسلبتموهم عزّتهم وكراماتهم، استدرجتم العالم كله إلى أرض لبنان، أصبحت أرض لبنان مستباحة، وتدّعون التمسّك بالسيادة وبالقرار الوطني الحر، طاردتم الأحرار، لم تتركوا مكاناً للأحرار وللكلمة الحرّة، ولا للكرام والشرفاء وأصحاب الضمير.

‎تعاطف العالم كله والمسؤولون فيه مع لبنان، ولم يلمس اللبنانيون منكم أي تعاطف أو حس بالمسؤولية، الاخلاقية أو الوطنية، لم تذرفوا دمعة واحدة على مأساة لبنان وما يتحمّله الناس من أوجاع وآلام، أغوتكم السلطة والمال، وفقدتم كل شعور إنساني أو إحساس بالمسؤولية، لم تحاولوا مساعدة الناس على الخروج من فجيعتهم ومحنتهم، عدتم في أقل من اسبوع على الفاجعة، على الانفجار الرهيب الذي تنصّلتم من مسؤوليته، وعلى أكل أموال الناس بالباطل ونهبها، عن سابق تصور وتصميم، دون وازع من إيمان أو ضمير، إلى عاداتكم غير المحمودة، ولا المسؤولة، وأنتم مستمرون فيها حتى اللحظة، القبول بالفراغ على رأس الدولة والإطاحة بالدستور، كيف نشكّل حكومة على شاكلتنا، كيف نتقاسم المغانم والحصص، كيف نحافظ على استمراريتنا في السلطة، كيف نضع أيدينا على مقدرات البلاد، كيف، على حساب جوع الشعب وآمال الشباب، نتحكّم بالبلاد وموارد الدولة ونخطط لتقاسمها واستتباع مؤسساتها وإداراتها ومرافقها العامة.

‎عدتم لتتقاتلوا على السلطة وعلى المناصب والمباهج، وعدتم وما زلتم تعدون بالإصلاح وبالاصلاحات، وقضيتم على مفهوم الإصلاح وعلى روح الإصلاح ومعناه.

‎بلغ اليأس باللبنانيين مبلغه إلى حد البحث اليائس عن حل لمأساتهم، أو صيغة أو نظام، أو تأمين الحد الأدنى من الاستقرار والأمان والعيش الكريم، أكانت الفدرالية فبها، أو كان نظام الحياد، فليكن. وقبل أن يأخذهم القهر والذل والخوف إلى المضي قدماً، في ذهولهم وهذيانهم، مستجيرين بالنار وسوء المصير والاندفاع إلى المجهول، يستفيقون مذعورين من هول المصاب، يتساءلون، ولكن أين الدولة، أين المفر، ونحن لم نبنِ وطناً ولا دولة. وكيف يكون حياد وما من ولاء للوطن، وكيف يكون حياد في غياب دولة ونظام عام واحترام للدستور وتطبيق للقوانين واجلال للسيادة وتمسك بالاستقلال، وكيف نبني من الخوف سياجاً، ومن القهر حصناً، أو نرجو من الضعف قوة، أنها مسألة إيمان بالحق وبالعدالة، حق الإنسان بأن يعيش حرّاً كريماً، وحق الشعوب بالامان والاستقلال، وحقها في تقرير المصير. ليست المسألة مسألة حياد لبنان، لبنان بطبيعته وتكوينه، تاريخاً ومنشأ ومساراً هو دولة محايدة، فلا نجعل من حياد لبنان أزمة خلافية.

‎قد لا نحتاج إلى الحياد إذا بنينا دولة قوية وعادلة ومعززة بالوحدة الوطنية والتماسك الداخلي والولاء للوطن، وبالعدالة الاجتماعية والاقتصادية، ومتوجة بالعيش المشترك الآمن، فهذه الدولة، تغنينا عنه، وتشكّل سياجاً وطنياً قوياً وحماية كافية، ولن يفيدنا الحياد حتماً، إذا استمرينا على انقساماتنا ولم نبنِ دولة، وبقينا على حالنا من تمزق وتشرذم وحقد وعداء.

‎وما قيمة الحياد إذا كان المسؤول لا يقيم وزناً لمفهوم الاستقلال والسيادة، ولا يدرك معنى أو مضموناً لمفهوم الدولة والحكم الرشيد والحرية، ولا يعرف كيف يجنّب بلاده وشعبه التورّط في الحروب والانقسامات والنزاعات والصراعات الفئوية والمحلية والاقليمية والدولية، فيستدرج الدول إلى ساحاته ومدنه ومؤسساته، ويستجدي القوى الاقليمية والكبرى التدخّل في شؤونه الداخلية، ولعل أعظمها وأكثرها مهانة، مسألة انتخاب رئيس للجمهورية بدل أن يعمل على الالتزام بدستور بلاده واحترام القوانين والحفاظ على كرامة شعبه، والقيام بكل ما يؤدي إلى تعزيز وحدة الشعب وأمن المواطن واحترام المؤسسات واغناء الوفاق الداخلي وتدعيم قواعد العيش المشترك وبناء الدولة والتأكيد على قيم الحق والعدالة والمساواة وتعزيز الولاء الوطني، حتى ان مبدأ النأي بالنفس، وهو الوجه السياسي لنظام الحياد القانوني الذي تم التوافق عليه وتحول التزاماً في البيان الوزاري للحكومة، انقلبنا عليه، ولم نحسن التعامل معه، فعدنا لنطرح الحياد بديلاً، حيث ضاقت الخيارات، تحت ضغط المآسي والنكبات والانفجار الكبير.

‎لقد ضيّقتم على الناس الخناق، ولم تؤمّنوا لهم الأمن أو الحماية، ولم تجعلوهم يوماً يشعرون بالطمأنينة أو الاستقرار، واستعملتموهم وقوداً في خلافاتكم ونزاعاتكم وصراعاتكم، بكل أنواعها الطائفية والمذهبية والمناطقية طمعاً بالسلطة والمال والهيمنة، فاضطريتموهم إلى أن يلتجؤوا هاربين إلى صيغ وحلول لا تشكل بذاتها أماناً أو ضماناً أو حماية.

‎أصبحنا أسرى دول متصارعة، وننتظر، كما العادة من يحلّ مشاكلنا، ومن يأخذ عنا القرار، وينقذنا من أزمتنا المالية والاقتصادية، ويعيد إلى الناس جنى العمر، ومن يؤمّن لنا الغذاء والماء والكهرباء والدواء والمأوى، ومن ينتخب رئيس دولتنا، ومن يشكّل حكومتنا، ونحن في قمة العجز والتفكك والتحلل، ونحن ما زلنا نكابر ونعاند وندعي أننا حماة الاستقلال والسيادة وأننا نملك خياراتنا، ونحن لسنا سوى أدعياء، أدعياء حرية واستقلال وسيادة، نحن دولة أدعياء. العالم كله بات يجول في ساحاتنا، في ساحات الفراغ، حيث لا دولة ولا مؤسسات، وحيث ساحات المرفأ، حيث اطلالة لبنان على العالم، حيث الفاجعة، حيث الكارثة، وقعت على اللبنانيين، على العائلات والأطفال، على حياة الناس، حيث الدولة تشكو الفراغ، حيث العدالة في غربة، حيث الألم يحاصر ويعتصر القلوب، حيث الدمع لا يجف، حيث الغضب يتنامى، حيث الحرية أصبحت تسولاً، حيث الكرامة كسرة خبز، ألستم أنتم المسؤولون عما حلّ بالناس، أليست هي مسؤوليتكم أليس كل ذلك هو نتيجة جشعكم وأنانياتكم وأطماعكم وانقساماتكم ولا مبالاتكم، فكيف ستواجهون الناس، وكيف ستواجهون شعبكم، وكيف ستتجرؤون النظر في عيون الاطفال، لقد حلّ الضياع وحلت الفوضى ولم يعد هناك مكان للقانون وبتنا نعيش في شريعة الغاب. فما أنتم فاعلون؟

لم تكن المصلحة العامة أو الوطنية في وقت من الأوقات، إلّا فيما ندر أولوية لدى الطبقة الحاكمة، لم يتم التمييز يوماً ما بين الشأن الخاص والشأن العام، تحول كل ما هو شأن عام شأناً خاصاً، فعمّ الفساد واستشرى، وأصبح نمط حياة، واسلوب عيش، ونهبت أموال الناس، وجاء الانفجار المدمر والقاتل ليفضح كل شيء، لم يعد بالإمكان الاستمرار على هذا النهج، حافظت الدولة على وجودها القانوني، ولكنها فقدت مشروعيتها، فقدت ثقة الشعب، وبات من الضروري إعادة تكوين المؤسسات الدستورية، وفقاً لأحكام الدستور، إنتخاب رئيس للجمهورية، تشكيل حكومة مسؤولة، قيام مجلس النواب بدوره التشريعي والرقابي، ووضع خطة النهوض الاقتصادي والمالي، وبناء دولة الحق والقانون، واستعادة الشعب اللبناني لوحدته ولحياته الطبيعية ولكرامة عيشه، بما يحفظ استمرارية الدولة، بل استعادتها، والخروج من الفراغ القاتل والمدمر. تلكم هي الأوليات.

الدولة انهارت، وأموال الناس نهبت، والثقة فقدت، والعدالة غُيّبت، فماذا أنتم فاعلون؟

 

*وزير سابق