IMLebanon

عن أخلاقيات قتلة الأطفال

 

 

«الأولة أه، والتانية آه، والتالتة آه

الأولة آه، والغدر لما حكم صبح الأمان بقشيش…

والتانية آه، والندل لما احتكم يقدر ولا يعفيش…

والتالتة آه، والحر مهما انحكم للندل ما يوطيش…»

(أحمد فؤاد نجم)

 

 

في كتابه المرجعيّ «الطاغوت»، وقد يكون أهم بحث سياسي واجتماعي في التاريخ، يقول توماس هوبس إنّ الإنسان في الطبيعة ذئب للإنسان الآخر، وإنّ السبب الأهم الذي ينشئ القواعد الاجتماعية للعيش معاً، أو ما يسمى الأخلاق، هو واقع غير طبيعي للإنسان، هدفه وسببه الأساسي هو الحاجة للعيش مع الآخر من دون خوف من الغدر. وحسب تحليلي فإنّ الإنسان يتوقع الشر والغدر من الآخر لأنّه هو ذاته يحمل الصفات ذاتها التي ورثها عن أجداده الذين نجوا وأنجبوا لأنّهم أكثر عدائية وحذراً من آخرين اندثروا. من هنا، وعلى عكس ما نشأنا عليه من دروس عن الشفقة والرحمة، أو ما صُنعت من أدبيات رائعة في الفن والروايات والسينما، يبقى الذئب كامناً تحت عباءة الرحمة، ليظهر ويفترس، ليس فقط عندما يتعرض للخطر، بل عندما يظن أنّه في خطر، أو أنه قادر على الأذية من دون أن يتعرض للخطر، أو حين يستنسب خطورة المبادرة بالأذية مع احتمال ارتداداتها عليه، أو عندما يحشر في مكان لا مفر فيه للهرب، فيختار المواجهة اليائسة. هنا، لن يُسأل الذئب عن تاريخ ميلاد ضحيته ولا أظن أنه وضع قواعد عمرية لضحاياه… يقول هوبس إنّ الحق الوحيد للفرد في الطبيعة هو الحفاظ على الذات، وبما أن إمكانية التيقظ الدائم والحذر مستحيلة، يصبح اللجوء إلى مجتمع متكافل حتمية لا مفر منها من أجل الحفاظ على الذات من خلال التكافل والتعاون. بالطبع هناك آراء أخرى افتراضية لنشوء المجتمعات، لكنها تبقى أقل إقناعاً مما سبق. نشوء المجتمعات التكافلية يفرض على الفرد أن يتخلى عن جزء من حريته في سبيل المزيد من الأمان والاطمئنان، لكن مجرد الاجتماع مع آخرين، يفترض أيضاً وضع قواعد العيش معاً لتفادي الصدام، أو على الأقل الحد من احتمال حدوثه، وإن حدث، السعي إلى الحد من تداعياته على وحدة واستدامة المجتمع. من هنا، فإنّ قواعد السلوك ضمن المجتمع هي مسائل ظرفية ومتحولة مع الزمان والمكان، لكنها تبقى معرضة للانتهاك أو التجاهل بمجرد إحساس الفرد بالخطر على وجوده. لكن، ما هو الضامن لقواعد السلوك الاجتماعية بشكل عام؟ حسب رأي هوبس المنطقي فإنّ الضامن هو اعتراف جميع المتشاركين في المجتمع بشخصية رمزية وفعلية في الوقت ذاته، وهي ليست بالضرورة شخصاً ما، بل قد تكون هيئة أو منظومة أو مؤسسة، تضمن الردع الشرعي لمن يتجاوز القواعد وقوانين العيش معاً، وذلك بشكل متساوٍ بين الجميع. لكن كل ذلك سينهار حتماً بمجرد وهن أو تردد الهيئة عن فرض تطبيق القوانين. عندها، سيخرج الذئب بشكل طبيعي من تحت عباءة الرحمة والتعاون، من أجل الحفاظ على الذات. وعندها أيضاً سيعتبر الفرد أنّ كل فرد آخر ذئب ينوي القضاء عليه، فيذهب كل واحد للعنف الاستباقي بمختلف أشكاله بمواجهة الذئب الآخر.

 

لماذا هذا الكلام الآن والحرب قائمة، بهدنة أو من دونها، والذئاب وحدها تسرح وتشرّع لذاتها تجاوز قواعد السلوك. الواقع هو أنّ غياب الهيئة الناظمة للعيش معاً، أو تدني موثوقيتها بين الذئاب، أو غياب الإنصاف عن سلوكها، كلها تفضي إلى تفكك القواعد الاجتماعية للعيش معاً.

 

فإذا كانت الهيئة العالمية الناظمة للعيش معاً بين البشر كانت الأمم المتحدة، فإنّ هذه الهيئة منذ تأسيسها وقعت تحت سلطة القوى العظمى التي انبثقت بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتالي فقد وضعت على قواعد غير منصفة أصلاً، ويكفي وصف طبيعة مجلس الأمن وحقوق النقض التي تحتكرها الدول الخمس الكبرى، لنفهم استحالة كون هذه المنظومة ذات موثوقية لدى الأمم شتى. أما الهيئة الأخرى وهي الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإشكالها البنيوي نابع أولاً من كونها تصدر توصيات غير ملزمة إلا معنوياً، ثانياً لأنها تستند إلى التصويت العام، أي أن تتحول مسألة الحقوق مرهونة بالأكثرية والأقلية، وتصويت الأكثرية بالذات هو ما أعدم سقراط وجعل من أفلاطون وأرسطو أعداءً للديموقراطية، لكونها مجرد مجموعة مصالح وآراء لا تستند بالضرورة إلى الحق والأخلاق.

 

لماذا هذا الكلام الآن؟ في الواقع فقد تساءل البعض من الأصدقاء عن دور حقوق الإنسان والعقود الاجتماعية بين البشر في ردع البشر عن القتل والتدمير، بسبب أو بدونه، الجواب هو أنّ الإنسان ذئب للإنسان، إلا إذا كان المرجع صالحاً لحفظ العقود وردع المعتدي وحفظ النظام، أما عندما يكون المرجع عاجزاً أو متواطئاً فالذئب يبقى ذئباً، وكل الناس من حوله ضحايا جاهزين للقتل. المصيبة تقع عندما يستدرج النذل الحر الأبيّ إلى الفعل العنيف، وإن كان رمزياً، ليصب بعدها نار الحقد والنذالة المبيتة على الحر وأهليه، وينفذ خططاً جاهزة لإفناء ضحاياه، متخذاً من فعل الحر ذريعة للتوحش.