IMLebanon

لبنان أكبر من كلّ العهود

 

لَكَم يشبه لبنان اليوم القسطنطينية قبل سقوطها الكبير يوم كان علماؤها ولاهوتيوها يتجادلون حول جنس الملائكة في حين كانت أسوار المدينة تسقط تحت ضربات العثمانيين بقيادة السلطان محمد الثاني ابن الـ21 عاماً فقط!

 

ها هي أسوار لبنان الاقتصادية والمالية تنهار وتكاد تسقط بفعل تمدد سرطان الفساد والصفقات والسمسرات والزبائنية والمحاصصة، فيما السياسيون والأطراف السياسية يتجادلون حول نظرية العهد القوي…

 

في استعادة تاريخية لا بدّ منها اليوم، يكاد اللبنانيون يجمعون على أن “العهد الأقوى” في تاريخ لبنان منذ الاستقلال هو عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب من دون منازع، وربما كان عهد الرئيس الشهيد بشير الجميل ليكون قوياً لو لم يستشهد “الباش” قبل أن يتسلم الحكم فلم يُقدّر لنا أن نحكم عليه بالفعل.

 

نعم، يتفق اللبنانيون بعد مرور أكثر من نصف قرن على أن عهد فؤاد شهاب كان قوياً، رغم بعض المآخذ عليه والمتعلقة بتمدد نفوذ ما كان يُعرف بـ”المكتب الثاني” أو مديرية المخابرات في الجيش بحسب التسمية الحديثة. منبع قوة العهد الشهابي في السياسة الداخلية والاقتصاد أنه أنشأ المؤسسات الرقابية كمجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة والتفتيش المركزي، فحارب الفساد واتسم بالشفافية وبسط سلطة الدولة القوية بالفعل لا بالقول. وعلى مستوى السياسة الخارجية تمكن الرئيس فؤاد شهاب من أن يحمي لبنان من العواصف الإقليمية والدولية، ومنع ذوبان لبنان في “إعصار” الرئيس جمال عبد الناصر واحلام الوحدة العربية عبر ما سُمّي “الجمهورية العربية المتحدة” التي دمجت مصر وسوريا قبل أن تتفتت لاحقاً.

 

ولا يزال اللبنانيون يذكرون بفخر كيف أن “رئيسهم القوي” يومها اجتمع مع الرئيس العربي الأقوى في التاريخ الحديث في خيمة على الحدود اللبنانية – السورية نصفها في سوريا ونصفها الآخر في لبنان حيث جلس شهاب في النصف اللبناني تأكيداً على السيادة اللبنانية ورفض الاستلحاق بعبد الناصر الذي جلس في الجانب السوري من الحدود…

 

ولكن شتّان ما بين الأمس واليوم!

 

يحق لمؤيدي عهد الرئيس ميشال عون أن يقولوا إن الظروف اختلفت بعد أكثر من 50 عاماً والصلاحيات تغيّرت ولم تعد السلطة بيد رئيس الجمهورية، كما يحق لمعارضي العهد الحالي أن يؤكدوا أن التغيير الحقيقي الفاقع هو بين عهد رئيس تأسّست المؤسسات في عهده الذي اشتهر بالشفافية وخرج في نهايته الرئيس فقير الحال لا يملك شيئاً غير قراره الذاتي برفض أي تمديد أو تجديد رغم الظروف المؤاتية يومها، وبين عهد حالي تكاد فيه المؤسسات تلفظ أنفاسها الأخيرة بفعل الإصرار على تغييبها في كل المحطات ومصادرة دورها لمصلحة المحاصصة والإمعان في الفساد وتعيين الأقرباء والحاشية في كل المفاصل.

 

ما نورده في هذه السطور ليس للحكم على العهد الحالي الذي بلغ منتصف العمر، بل للتأكيد أن الحكم يكون في نهاية العهد وليس اليوم، إنما لتصويب البوصلة، لأن سقوط العهد لا سمح الله سيعني سقوط الهيكل على رأس الجميع ولا مصلحة في ذلك لأحد على الإطلاق مهما بالغ في الخصومة مع العهد ورئيسه وفريقه.

 

لكن نجاح العهد وقوة الرئيس الحالي وأي رئيس في المطلق، يجب أن تنبع أولاً من الاحتكام للـ”الكتاب”- الدستور كما كان يحلو لشهاب أن يسمّيه، ومن إعلاء المصلحة العامة على كل المصالح الخاصة، كما يجب أن تنبع من إعطاء صلاحيات كاملة للقضاء والأجهزة الرقابية وإطلاق يدها في محاربة الفساد واحترام الآليات، ومن رفض إلحاق لبنان بسياسة المحاور الإقليمية التي لم تجرّ لبنان يوماً سوى إلى الخراب.

 

ثمة فرصة ذهبية اليوم أمام العهد الحالي ليكون عهد الإنقاذ القوي فيما لو يتم الترفع عن كل المصالح الخاصة بدءاً من أعلى الهرم، ما يُلزم الجميع عندها بالانكباب على الخطوات الإصلاحية اللازمة إنطلاقاً من بسط هيبة الدولة في وجه كل الخارجين عليها عسكرياً وأمنياً، وفي وجه كل المافيات و”الكارتيلات” اقتصادياً ومالياً ونفطياً وفي الإدارة، ما يسمح للدولة بأن تعود قوية، وينقذ العهد الجمهورية ونفسه.

 

أياً يكن، فلنترك الحكم على هذا العهد للتاريخ، ولننكب على إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تنهار الدولة كما انهارت القسطنطينية، وعندها لن يرحم التاريخ أحداً، لأن لبنان الوطن والدولة والمؤسسات والاقتصاد وحده يجب أن يبقى أما العهود فزائلة كلها!