IMLebanon

عودة «تنظیم الدولة»: 1

 

إحیاء طرق «الحشاشین» في الاستقطاب والاستهداف اعتماد آلیات «الاستقطاب المقلوب» وتقاطع مع إیران

 

تزداد مؤشرات إعادة إحیاء «تنظیم الدولة الإسلامیة» في دول مختلفة من العالم العربي والإسلامي، وهي ترتفع منذ وصول الرئیس الدیمقراطي جو بایدن وبلغت ذروتها مع الانسحاب الأمیركي من أفغانستان، وما تلاها من انتعاش خلایا وشبكات هذا التنظیم على مستوى المنطقة العربیة وامتدادها الإسلامي، وكان المؤشِّر الأول لطبیعة هذه العودة الهجوم على مطار كابل خلال تنفیذ الانسحاب الأمیركي، وإعلان تنظیم الدولة الحرب على حركة طالبان وتكفیرها.

ad

بعد الانسحاب الأمیركي من أفغانستان باشرت الماكینة الإعلامیة لتنظیم الدولة نشر مقاطع مصوّرة لعملیات تفجیر استهدفت القوات الأمیركیة على طریقة التنظیم، ولیس بأسلوب حركة طالبان، لتخلص هذه المقاطع إلى أنّ الفضل الحقیقي في انسحاب القوات الأمیركي یعود لعملیات التنظیم ولیس لقتال طالبان، وانتشرت بكثافة في وسائل التواصل الاجتماعي العربیة، ومنها لبنان، وكانت هذه إشارة إضافیة إلى المنحى الذي یسلكه هذا التنظیم لحفر طرقاته الجدیدة في العالم الإسلامي في هذه المرحلة.

الواقع أن «تنظیم الدولة» لم یغب عن الساحة، وإن كان قد خسر الاهتمام والقدرة على التأثیر في وسائل الإعلام بسبب عجزه عن القیام بعملیات كبیرة وحسّاسة، لكنّ «المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب» كشف في تقریر نشرته وسائل الإعلام، بتاریخ 22 نیسان 2020 عن تنامي وازدیاد أعداد حسابات أعضاء «تنظیم الدولة» المعروف بـ«داعش» وأنصاره على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة فیسبوك، حیث تمكّن التنظیم مجدّداً من توظیف أدوات الإعلام من تصویر وإخراج فنّي لمقاطع جدیدة وبمدّة زمنیة قلیلة، حتى یسهل تحمیلها، واتّضح، بموجب التقریر أنّ الماكینة الإعلامیة للتنظیم لا تزال تحتفظ بمكتبة ضخمة ملیئة بموارد التكنولوجیا والخطب والبلاغات ووسائل التجنید والتمویل والتدریب والتخفّي والتكتیكات القتالیة وصنع المتفجرات.

تتّسم العهود الدیمقراطیة في الإدارات الأمیركیة بانفلات زمام التنظیمات المسلحة وبازدحام النزاعات بالواسطة، مع تعزیز الانسحاب للقوات الأمیركیة من ساحات التوتّر وهذا من شأنه إحداث فراغات استراتیجیة واسعة تستفید منها التنظیمات الإرهابیة للتمدّد واستعادة الحیویة التي تراجعت كثیراً منذ سقوط تنظیم الدولة في تموز 2017 وإخراجه من مدینة الموصل، وتحوّل إلى مجموعات دخلت «سُباتاً قسریاً» بانتظار التغییرات الدولیة التي یبدو أنّها باتت الآن أمراً واقعاً.

لكن من الضروري التذكیر بأنّ المصالحة الأمیركیة مع طالبان أنجزها الرئیس الجمهوري السابق دونالد ترامب، الذي أنهى من الناحیة العملیة الحرب الأمیركیة على «الإرهاب الإسلامي» التي انطلقت عام 2001 إثر هجمات 11 أیلول في نیویورك، وهذا التحوّل أنهى معه مفاعیل كثیرة تتعلّق بإدارة واشنطن للعلاقات مع طالبان أولاً، وبالعالم السني بشكل عام.

یمكن الاستنتاج بأنّ المسار العام لحركة طالبان سیأخذ طریقه نحو التأقلم التدریجي مع المجتمع الدولي، بالنظر لما یعلنه مسؤولو الحركة، وبالاستناد إلى أنّ قادتها لا یستطیعون إرساء نظام سیاسي مستقر، یؤمّن الحیاة الاقتصادیة والاجتماعیة للشعب الأفغاني بدون علاقات قائمة ومتفاعلة مع المنظومة الدولیة، وهذا الاتجاه سیعمل تنظیم الدولة، المعروف بـ«داعش» على تخریبه، مدفوعاً باختلاط الاختراقات في قیاداته المتوزعة بین سوریا والعراق وأفغانستان، والتي تتلاقى بشكل مكشوف مع أجندة النظام الإیراني.

یمكن التأكید بأنّ قنوات التعاون بین الحرس الثوري الإیراني وتنظیم الدولة عادت إلى نشاطها مع تصفیة قائد فیلق القدس قاسم سلیماني في 3 كانون الثاني 2020، عندما قام وفدٌ من التنظیم بتقدیم العزاء في السرادق الرئیسي في بغداد، لتنشأ بعد ذلك قنواتُ تنسیقٍ أنتجت تفاهماً موازیاً للتفاهم القائم مع تنظیم «القاعدة» والقاضي بعدم استهداف الشیعة في إیران وخارجها، والتركیز على الوجود الأمیركي في المنطقة، من دون أن ننسى دور التخادم بین الجانبین، والذي ساهم في تدمیر معاقل السنة في العراق وسوریا.

هذا المسار كشفته بتوثیق دقیق دراسة نشرها موقع مجلة «الراصد» العدد مائة وخمسة وسبعون – ربیع الثاني – 1439 هجري، 2017 میلادي، سواء في المسار التأسیسي، أو فیما یتعلق بما تفرّع عنه من تفاهمات بین تنظیم القاعدة وإیران، وما یبنى علیه لاحقاً بین تنظیم الدولة والحرس الثوري.

تعمل قیادة تنظیم الدولة على مستویین أساسیین:

– الأول: استعادة الاهتمام الدولي من خلال عملیات تحدث صدى إعلامیاً واسعاً، كما حصل في مطار كابل مؤخراً، بهدف استعادة «هیبة» التنظیم والإفادة من الضجیج الإعلامي في تنشیط الخلایا النائمة وتحفیزها على التحرّك والتوسّع.

– المستوى الثاني: العمل على اختراق البیئات السنیة في العالم العربي، وخاصة في الدول التي تعاني هشاشة سیاسیة ومآزق اقتصادیة واجتماعیة.

حسب قراءة في المتغیّرات التي طرأت على سلوك المجموعات المرتبطة بتنظیم الدولة فإنّ هناك خطین متكاملین تعمل في إطارهما هذه المجموعات، وهما:

– الابتعاد عن الصورة النمطیة المعتادة للمنتمین إلیها، وهي صورة الأشخاص المتدیّنین المرتادین للمساجد، والاستثمار في أنماط السلوك الاجتماعي المضاد.

إعتادت التقییمات الأمنیة أن تركز على اعتبار أن العناصر الإرهابیة یتغلغلون في المساجد، ویكونون من «أصحاب اللحى»، ویرتدون الأزیاء الباكستانیة أو الأفغانیة، فیجري التركیز على الفئات التي تؤدي الصلوات وترتاد المساجد، لكنّ الواقع یؤكد أن الجیل الجدید من الشبان یأتون من البیئات المهمّشة الذین یتعاطون الحبوب المخدرة، ویتعاطون المسكرات، ویقومون بأعمال البلطجة والانحراف، وقد جرى اختیارهم بهذه المواصفات للتغلب على الأنماط التقلیدیة من المتابعات الأمنیة السائدة.

بعد التواصل مع زملاء في العراق ممن خبروا التجارب في مجال الإرهاب، كانت الخلاصة إلى أنّه یجب التوقف عند التركیبة النفسیة والعقائدیة التي یجري تكوینها للمتطرفین، وهي نتاج الاختراق الحاصل من قبل الحرس الثوري الإیراني لهذه الشرائح، وقوامها:

– اعتماد التقیة التي تبیح فعل الموبقات في سبیل تحقیق الأهداف، ومن هنا لا یعود تعاطي المسكرات والمخدرات أو ظواهر الانحراف عقبة في سبیل انخراط أصحاب هذه الآفات في قلب المشروع الداعشي، وتتشكل لدى هؤلاء الشبان اعتقادات وقناعات بأنّهم یعبدون لله بأعلى الدرجات من خلال هذه الوسائل، وهذا ما یفسر قدرة الإرهابیین على ارتكاب أبشع الجرائم وسهولة تطویعهم لتحقیق أهداف إیران في تدمیر المجتمع السني في المنطقة العربیة.

یمكن تسمیة هذا التحوّل بأنّ «تنظیم الدولة» اعتمد «الاستقطاب المقلوب» بالاعتماد على الفئة ذات الانحراف الاجتماعي، وهو أسلوب سبق لأعضاء في تنظیم القاعدة أن لجأوا إلیه، من خلال أسالیب مشابهة للتمویه في حیاتهم الیومیة قبل تنفیذ اعتداءات الحادي عشر من أیلول في نیویورك، لكنّ تنظیم الدولة طوّرها بشكل أوسع، وجعلها أساس الاستقطاب لدیه في المرحلة المقبلة، باعتبارها أفضل الطرق وأقصرها وأكثرها ضماناً، فأصحاب هذه المواصفات یمكن تحویلهم إلى قنابل مغلقة غیر قابلة للتفكیك، لأنّها مكوّنة من الجهل والانحراف، ومن التطرف والتعصّب الأعمى.

تشبه التركیبة التي نشیر إلیها تركیبة تنظیم الحشّاشین الذي قام بین القرنین الحادي عشر والثالث عشر المیلادي والذي اعتمد استراتیجیة تكاد تكون متطابقة مع ما یستخدمه الحرس الثوري الإیراني و«تنظیم الدولة» في الاستقطاب والتجنید والدوافع للتنفیذ، وهذا ما ینذر بخریف من النار یقبل على العرب والمسلمین.