IMLebanon

بين غضب الطبيعة وتراخي الإنسان… حداد الأرض!

 

حرائق مفتعلة؟ طبيعية؟ مفتعلة؟

 

“المشرف” المشرفة على ساحل الشوف، على بحرٍ أبيض متوسط، والمتكئة بجنباتِها الأربع على ربوعٍ خضراء، بدت أمس في حضرةِ الموت، وتحولت ورودها سواداً وانبعث في أرجائِها نبات دامس. ووحده عواء كلب، يتلوى، أعادنا الى اللحظة، الى الأرض المحروقة، وجعلنا نُردّد من قلب القلب: يا لغضبِ الطبيعة وتراخي الإنسان!

هي حرائق مفتعلة؟ لا، لا، هي حرائق طبيعية… لا مفتعلة… لا طبيعية…

 

هذا هو حديثُ الساعة، منذ أكثر من 60 ساعة، منذ استعرت النيران في جنبات لبنان. هو تشرين، وبين تشرين وتشرين يقال صيف آخر وحرائق تتكرر في كلِ عامٍ كما تتكرر مواسم الأزهار والطبيعة… فلماذا لم يأخذوا وصول تشرين بالحسبان قبل أن يحين موسم الحرائق السنوي؟

 

يُقال، في علمِ الوقاية، الساعة الأولى هي الساعة الذهبية. فأين كانوا في لحظات اشتعال أجزاء من أجزاء لبنان في الساعة الأولى؟

 

وكيف هو المشهد العام؟ وماذا وكيف ولماذا وكل علامات الإستفهام طرحناها هناك، على الطريق، ونحن نذرف دمعاً غزيراً على طبيعة متشحة بالسواد.

على هذه الأرض ما يستحقُ الحياة.

 

هي عبارة ٌ خرطشها أحدهم على جدار ومشى. نقرأها. ننظر في ورودٍ ملونة صمدت وراء عشرات الأشجار الشاحبة فنُدرك أن الحياة تظلّ دائما أقوى.

سيارات إطفاء الدفاع المدني تروح وتجيء على طول الطريق الساحلية التي تربط بيروت بالجية والدامور والناعمة والدبية والمشرف… ننحرف الى اليمين ونتجه صعوداً الى “المشرف”، المشروع، الذي اعتبر يوم رُسم على الورق ونُفذ في الواقع، نموذجياً. هو مشروع طمح إليه الرئيس الشهيد رفيق الحريري واستثمر فيه، في العلم والبيئة والإنسان. نعود وننحرف من جديد يمينا في اتجاه مشروع المشرف ونتوغل في أرضٍ تبدلت، رأساً على عقب، في ساعات وما عادت تشبه نفسها.

 

أشجار الغار كثيرة. وفوائد الغار لا تُعدّ ولا تُحصى. والغار، لمن لا يعرف، يفيد القلب والأوعية الدموية في بيئة جغرافية أصرّ مهندسوها على أن تكون بيئية بامتياز. لكن، ما حدث قد حدث… هو حكمُ الطبيعة أم إهمال البشر؟

دعونا نتابع بحثاً عن جواب.

 

حاولنا ملياً حبس دموعنا ونحن نمشي في الأرجاء لكننا فشلنا. رسبنا. أشجار الكينا تموت. أشجار الصنوبر والصفصاف والزنزلخت أصبحت، بين ليلة وضحاها، في خبر كان. وعبق الحرائق أقوى من كل روائح الغار والكينا. نحاول أن نحجب العينين الدامعتين عن الآخرين فنرى في العيون الأخرى الناظرة الأسى نفسه. مناظر موجعة حتى القهر.

 

“حافظوا على المشرف نظيفة”  Keep Mechref clean

 

آرمة “شحترت” الحرائق مضمونها. صفارات سيارات الدفاع المدني تكاد تصمّ الآذان لكن هول الصمت، صمت الطبيعة، يبقى أقوى. “أحبوا الطيور وأحموها” عبارة أخرى تلفت في بقعة ما عاد فيها إلا الذباب. الفلل كثيرة. 10 في المئة من المشرف فلل و90 في المئة من مساحتها خضار. مركباتٌ ترمي مياهها على حرائق تومض من تحت الرماد. انها “النار تحت الرماد؟”.

 

“أنا صديق البيئة”. مقولة ثالثة. “أحموا الأشجار تحميكم”. عبارة رابعة. غريبة ٌ حقاً هذه البقعة الجغرافية التي أكلتها النيران. نتمهل. ثمة كلب ينظر بعينين خائفتين في كلِ التفاصيل مربوط بحبل في قفص. نقف الى جانبه. نحاول أن نحرره. صاحب هذا الكلب هو الدكتور علي نخلة (نائب حاكم مصرف لبنان). ونطمئن بعد أن نتأكد أن صاحب الفيلا (والكلب) ما زال صامدا في عقاره. صاحب فيلا مجاورة من آل السبع اتّسخت ملابسه برذاذ مياه الحرائق و”الشحتار” يتلوى من الوجع على مشهد لم يتوقّع أن يراه. هو يشتري منذ يومين صهاريج مياه ويدفع لعمالٍ سوريين كي يبقوا حول منزله والمنازل المجاورة وهم يرشون المياه بنبريج. هو غاضبٌ وموجوع في آن. فلا شيء، لا شيء أبدا، يفي بحجم ما يشعر به السكان. ويقول: إشتريت هنا، في المنطقة، من أجل الخضار، واشتريت أشجارا دفعت ثمنها 40 ألف دولار، وظننت أنني أصبحت محميا بيئيا وأدفع كل شهر 200 ألف ليرة رسم مياه الى “مياه المشرف” لكن ها قد اكتشفت، مع كل الآخرين، أن خراطيم المياه المزروعة في الأرجاء التي يفترض أن تساعد في حال نشوب حريق معطلة. أتتصورون؟ هي معطلة. ويستطرد: شركة مياه المشرف تتقاضى فواتير شهرية على العداد.

صاحب المشروع هو فؤاد صالحة ورئيس بلدية المشرف هو زاهر عون. ومختار البلدة هو طانيوس مهنا. وماذا بعد؟

 

هدير الطائرات يشتدّ حينا ويخفت أحيانا في السماء. الطائرة القبرصية تمرّ من حين الى آخر وطائرات هليكوبتر كثيرة ترمي ما في بطنها من مياه على حرائق تتمادى في المشرف والجوار.

 

صحافيان يسألان عن وزير البيئة: هل مرّ من هنا؟ شبابٌ يأخذون صورا تذكارية في مأتم البيئة. نتجه صوب بلدية المشرف. زحمة تفتقر إليها كل الشوارع الأخرى. ندخل عرين البلدية. ندخل مكتب رئيسها زاهر عون فنجد النائب تيمور بك جنبلاط يرافقه النائب بلال عبدالله ووكيلا داخلية الشوف في الحزب التقدمي الإشتراكي عمر غنام وسليم السيّد.

 

تيمور بك يمسح مرارا وتكرارا العرق الذي يتصبب من جبينه. هو لا يحب التصوير. وبلال عبدالله يستمر محتفظا “بروحه الجميلة” حتى في سوداوية اللحظة. زحمة غير اعتيادية في مكتب رئيس البلدية. ومستشار نائب الجبل تيمور جنبلاط حسام حرب يُخبرنا: اتصلنا بوزير الخارجية الأردني وبسفراء دول تركيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من أجل مساعدتنا وإرسال طائرات إطفاء النيران. وتجاوب الأتراك والأردن بسرعة قياسية. نحن خائفون من أن تعود النيران وتستعر وتتمدد الى أعالي الشوف.

 

حجم الحريق هائل. والمساحات المحروقة واسعة، وتزيد عن ثلاثة ملايين متر مربع بين كفرمتى والدامور والناعمة وحارة الناعمة والمشرف. وماذا عن الساعة الأولى من الحرائق؟ هل حصل التدخل بسرعة أم هناك إهمال؟ هل من إجابة واضحة؟ يجيب رئيس البلدية في حضور النائبين جنبلاط وعبدالله: انتقلت الحرائق بسرعة هائلة وقفزت شرارة، من مكان الى آخر، مسافة كيلومتر. وما فعلناه كان كلّ ما يمكننا فعله.

لكن ماذا عن خراطيم المياه التي لا تعمل؟ يجيب عون: نحن مددنا المياه الى كلّ المشروع وهي، حتى لو كانت تعمل، ما كانت ستتمكن من إخماد النيران.

 

نغيّر الموضوع؟ نصرّ على التوغل فيه؟ نسمع صوت انفجار قريب. هو لغم انفجر. ثمة عشرات الألغام إنفجرت في اليومين الماضيين. يأخذ تيمور جنبلاط محرمة ويمسح مجددا العرق الذي يتصبب منه وهو يتلقى اتصالا تلو اتصال. يخرج الى الشرفة. ينظر الى الجبل. يعود الى الداخل. يخرج مجدداً ويرمي مجموعة كلمات يلوم فيها الدولة والعهد والبلديات وحتى الناس. فالكلّ مسؤول عن هذه البيئة المتشحة اليوم بسوادٍ.

 

يعود رئيس البلدية ليتحدث عن مواطنين غادروا ونسوا حتى أطفالهم فيتدخل بلال عبدالله: قد ينسون زوجاتهم لكن لا يعقل أن ينسوا أطفالهم أبدا.

 

مساحة المشرف 40 مليون متر مربع و90 في المئة منها خضارا تماهياً مع كل منطقة الشوف، أما اليوم فمنطقة الشوف تكاد تتحول سوداء. جان ميشال عون (إبن النائب إيلي عون) يجول على الأراضي المحروقة. وها هو يُحدثنا عن احتراق “الأركنسيال” وعن احتراق 13 سيارة في الدامور في كاراج يملكه وليد منصور… نقاطعه بسؤال: هل الحريق مفتعل؟ يجيب: لا يمكننا أن نقول نعم أو لا. جواب ابن النائب تقليدي.

 

همس أحدهم في أذن تيمور جنبلاط. اللواء محمد خير سيصل بعد دقائق من قبل رئيس الحكومة. وصل اللواء يرافقه ممثل المستقبل وليد سرحال. سلام وكلام معسول توجه به اللواء الى الحاضرين ثم تبعه بكلامٍ قد يجعل البعض “يزعل” وفيه: لماذا لم تأخذ البلديات إحتياطها قبل وصول تشرين ؟ ويستطرد: “هناك مسؤولية وطنية. الدولة مسؤولة. البلدية مسؤولة. المواطن مسؤول. يمسح رئيس البلدية جبينه من العرق.

 

مختار حارة الناعمة سابقا زهير فخر الدين، الموجود في البلدية، يقول: كلهم يكذبون. كنت مختاراً وأعرفهم واحداً واحداً.

 

رائحة الحرائق تنبعث مجدداً. يشرب الحاضرون قهوة “شوفية” ويتمتم تيمور بك حين يخبرونه عن اقتراب وصول احدهم: كلهم يلهثون وراء الصورة. الكلام الآن لا يفيد. فلنقم بأعمال.

يغادر النائب جنبلاط المنطقة بمركبته من نوع مرسيدس رقمها 223- أ ويتبعه اللواء خير.

 

نجول في الأرجاء فتستوقفنا آرمة جديدة على عقار أسود قاتم: أرض للبيع مساحتها 860 متراً مربعاً. والرقم سعودي. نتابع نحو كنيسة المشرف. الأهالي الذين التجأوا إليها في الليل غادروها نهاراً. وباب الكنيسة مقفل. لا كاهن فيها والقداس الأسبوعي يحييه آباء من كنائس الدامور أبرزهم: أبونا جورج مقصود وأبونا أنطوان سركيس. نقصد جامعة رفيق الحريري فنذرف دمعاً جديداً.

 

الصهاريج الخاصة تستمر في الذهاب والإياب. شباب الدفاع المدني يستلقون في ساحة حافظت على خضارها. هم أتوا من إقليم بعلبك. نسألهم عن طبيعة العملية التي يقومون بها؟ فيجيب العناصر: الأرض وعرة جدا ولا طرقات داخل الغابات و”مدافع” المياه لا تعمل. هذه هي شكاوى الدفاع المدني. ويستطرد أحدهم: أكتبي أننا لا نقبض قرشاً. وهل تناولوا الطعام؟ تمر سيارة في هذه الأثناء مكتوب عليها “جمعية التنمية للإنسان والبيئة” وينزل شاب منها ويوزع على شباب الدفاع المدني مياه الشرب. مشهد جميل في زحمة سواد الصور.

 

نغادر؟ نبقى؟ نساعد؟

 

المعلومات تتقاطر عن حرائق تندلع في كلِ مكان.

 

هي جهنم أتت إلينا؟

 

نعود أدراجنا محملين بتمنٍّ: إرحموا البيئة ترحمكم السماء وصلّواً كثيراً لتُمطر وللدولة لتفتح آذانها وتسمع شعبها!

 

لم تقفل أركنسيال، منذ 15عاماً، أبوابها في الدامور يومًا لكنها بالأمس فعلت. أركنسيال التي التهمتها النيران تضم 32 طفلاً و35 موظفاً، تعاني غالبيتهم من صعوبات، وتضم مكتباً لكاريتاس ومركزاً لإعادة فرز النفايات وتساعد مئات «الداموريين» وغير «الداموريين» صحياً واجتماعياً…

بالممكن

أركنسيال… بدعمكم أعود!

 

وأركنسيال هي جمعية لبنانية غير سياسية وغير طائفية. تأسست خلال الحرب اللبنانية في العام 1985 كردّة فعل على التشرذم والصراع بين الطوائف وعلى سياسة الفصل الديني. مُنحَت صفة المنفعة العامة سنة 1995. سُمّيت الجمعية“arcenciel” ومعناه بالعربية ” قوس قزح”، لأن هذه التسمية تمثّل كل الألوان، ولأن الجمعية تهدف الى خدمة الجميع وتأمين الدمج في المجتمع. وقد تمّ اختيار التسمية ايضاً انطلاقاً من جملة وردت في العهد القديم، سفر التكوين:” فَمَتَى كَانَتِ الْقَوْسُ فِي السَّحَابِ، أُبْصِرُهَا لأَذْكُرَ مِيثَاقًا أَبَدِيًّا بَيْنَ اللهِوَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي كُلِّ جَسَدٍ عَلَى الأَرْضِ.” (9/8-13).

وفي هذا الاطار، تعمل الجمعية مع ومن اجل كل شخص يعاني من صعوبات، من دون أي تمييز يتعلّق بالعمر أو بالجنس أو بالدين أو بالعرق أو بالجنسية. مهمتها المشاركة في التنمية المستدامة للمجتمع اللبناني، عبر مساندة الفئات المستضعفة وإعادة دمج الأشخاص المهمّشين، ومن برامجها تأمين التحرّك لذوي الإعاقة، برنامج الصح، برنامج التمكين الشبابي، برنامج التمكين الإقتصادي وبرنامج الدعم الاجتماعي. وبرنامج البيئة وبرنامج الزراعة المستدامة… وفي عام واحد ( 2018) قدمت خدمات لـ 50000 شخص في لبنان. وأركنسيال اليوم في حداد. وتسأل المساعدة لتقف مجدداً على قدميها وتنطلق. وستنطلق. رقم هاتفها، لمن يشاء: 71682458