IMLebanon

الأمن الإقليمي في ظل سيناريوهات مفاوضات فيينا

 

 

عادت إيران إلى مفاوضات فيينا بعد غياب طويل لتبدأ الجولة السابعة من المفاوضات والتي من المفترض أن يكون هدفها الأساسي متابعة التفاوض غير المباشر بين إيران والولايات المتحدة من أجل تأمين عودة واشنطن للالتزام بالاتفاق الموقّع بين إيران والقوى الدولية (1+5) بعد ان انسحب الرئيس دونالد ترامب عام 2018.

 

لا توحي مواقف المسؤولين في واشنطن وطهران بأن الطريق ستكون معبدة وسهلة للتوصل إلى تسوية تفتح باب عودة أميركا للاتفاق ورفع كل العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب عند الانسحاب من الاتفاق. من المتوقع ان يقارب الطرفان الاميركي والإيراني البحث عن صيغة الالتزام بالضوابط التي نص عليها الاتفاق الأساسي، مع اجراء جملة من التعديلات التي يطالب بها الطرفان، مع قدر من التصلب، في ظل فقدان كامل للثقة، بسبب القبول الذي حصل في موقف القيادة الإيرانية بعد انتخاب الرئيس المتشدد إبراهيم رئيسي، والذي ينطلق موقفه من مطلب دعوة واشنطن لرفع كل العقوبات المفروضة على إيران كخطوة أساسية من أجل العودة إلى المفاوضات المباشرة مع الوفد الأميركي الموجود في فيينا. في نفس الوقت لا يبدو بأن الرئيس جو بايدن يستعمل الخطوات للعودة إلى الاتفاق الأساسي، حيث يبدو بأنه يريد ان يربط هذه العودة باتفاق سياسي أوسع مع إيران، يتناسب ومصالح إسرائيل وعدد من حلفاء واشنطن في مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى إدخال بعض التعديلات على الاتفاقية، وبما يُخفّف المعارضة لهذه العودة داخل الولايات المتحدة ولدى الأصدقاء والحلفاء الاقليميين.

 

من أجل فهم وإدراك التحديات والمصاعب التي ستواجهها المفاوضات التي بدأت في فيينا، لا بدّ من وضع المطالب التي يتمسك بها الطرفان الأميركي والإيراني ضمن ثلاث فئات: الأولى تتعلق بنوع ومستوى التنازلات التي يطلبها كل طرف من الطرف الآخر، كشرط للعودة والالتزام باتفاقية عام 2015. فالولايات المتحدة تعتبر بأن إيران قد ارتكبت خروقات كبرى لبنود الاتفاقية منذ عام 2019، وهي غير مقبولة، وبأنه لا بدّ من اجراءات صارمة تعيد إيران إلى ما كانت عليه، أي على بعد سنة كاملة من الاقتراب من القنبلة النووية، في نفس الوقت لا بدّ من اجبار إيران الالتزام بكل ضوابط الرقابة التي كانت تمارسها على منشآتها النووية الوكالة الدولية الذرية (IAEA)، مع الالتزام أيضاً بالاجابة على كل الأسئلة عن نشاطات نووية سابقة قامت بها إيران قبل توقيع الاتفاقية، في هذا الإطار أيضاً لا بدّ ان تسمح طهران بإعادة تركيب وتشغيل جميع أنظمة الرقابة، وادارتها مباشرة من قبل المراقبين التابعين للوكالة الدولية، وهذا ما رفضته طهران إبان المحادثات الأخيرة مع مدير الوكالة عند زيارته لإيران.

 

في المقابل سبق ان طالبت طهران بلسان وزير خارجيتها الولايات المتحدة بدفع تعويضات عن الاضرار التي تسببت بها العقوبات الأميركية، والتي قدرت بتريليون دولار، وفق زعم الوزير، ويبقى المطلب الأكثر حساسية ويتمثل بالاحتفاظ ببعض التقدم والمكاسب التي احرزتها في المجال النووي من خلال خروقاتها لبنود الاتفاقية.

 

اما الفئة الثانية من المطالب فتشمل الضمانات التي يطلبها الطرفان للعودة إلى الاتفاق النووي الأساسي. يتركز المطلب الأساسي لإدارة بايدن بضرورة موافقة إيران بعد القرار بالعودة للاتفاق النووي على الدخول في مفاوضات سياسية وعسكرية تتعلق بالأمن الإقليمي وبتطوير برنامجها للصواريخ الباليستية، في الوقت نفسه تطالب إيران بضمانة بعدم انسحاب واشنطن من الاتفاقية في المستقبل، أو العودة وفرض عقوبات جديدة ضد طهران.

 

وتشمل الفئة الثالثة موضوع العقوبات المفروضة من قبل إدارة ترامب، والتي تشمل 1500 عقوبة في المجال النووي وغير النووي والتي تشمل أشخاصاً ومؤسسات إيرانية. في الوقت الذي ترى فيه إدارة بايدن ضرورة تقسيم العقوبات إلى ثلاثة أنواع، وذلك انطلاقاً من مدى ارتباطها بالاتفاق النووي وعقوبات يجب رفعها عند توقيع الاتفاق، عقوبات لا بد من التفاوض حول رفعها، والعقوبات التي يفترض الإبقاء عليها.

 

في ظل هذه الأجواء والتعقيدات يمكن تصوّر ثلاثة سيناريوهات يمكن ان تسلكها المفاوضات، والتي ستترك مفاعيلها وآثارها على مستقبل الأمن في منطقة الشرق الأوسط.

 

السيناريو الأوّل ويتركز حول العودة للاتفاق النووي الموقع عام 2015، وقبل قرار ترامب الخروج منه. لكن يبدو من خلال المطالب التي يتحدث عنها الطرفان الأميركي والإيراني لا يبدو بأنه سيكون من الممكن العودة للاتفاق الأساسي، فالمطالب تشكّل عوائق كبيرة وفعلية تمنع ذلك، من هنا تبدو ضرورة النظر إلى إمكانية تحسين الاتفاق من خلال وضع ضوابط وبروتوكولات جديدة لتنفيذه، وبالتالي التوصّل إلى «اتفاق معدّل». يبدو الآن من خلال المطالب التي يتقدّم بها الطرفان مدى صعوبة إحداث اختراق فعلي في مفاوضات فيينا، على الأقل في المستوى المنظور. لكن تشكّل إمكانية التوصّل إلى «الاتفاق المعدّل» الضمانة المعقولة التي يطالب بها الطرفان، وخصوصاً لجهة منع تكرار التجربة السيئة التي نتجت عن انسحاب ترامب من الاتفاق، وعلى الأقل طيلة فترة وجود بايدن في البيت الأبيض، ويمكن من خلال التوصّل لمثل هذه الاتفاقية المعدّلة ادعاء الطرفان الإيراني والاميركي بأنهما قد توصلا إلى اتفاقية أفضل من السابقة.

 

السيناريو الثاني ويتركز على فشل المفاوضات في التوصل إلى اتفاق ومواجهة حالة من الستاتيكو في شأن البرنامج النووي الإيراني، دون وجود إرادة فعلية في اقفال إمكانية المحاولة لاحقاً، وقد تمتد هذه الفترة إلى حين الانتخابات الأميركية المقبلة، مع إمكانية انتخاب رئيس أميركي جديد، مع امتداد هذه الفترة إلى مطلع 2025، ستكون الاخطار كبيرة بإمكانية تفلُّت إيران من كل الضوابط والدخول فعلياً في مرحلة صنع القنبلة، مع كل ما يرافق ذلك من تطوّر لصواريخ باليستية قادرة على نقل القنبلة إلى مسافات بعيدة.

 

السيناريو الثالث ويتركز على إعلان طهران أو واشنطن عدم رغبتها في التفاوض لإحياء الاتفاق النووي. وسيترتب على ذلك إعلان إيران تحررها من الضوابط الدولية على برنامجها النووي، والشروع في تسريع عملياتها النووية من أجل التحول إلى عضو فعلي في النادي النووي الدولي. في المقابل يمكن لواشنطن ان تغلّب كل خياراتها لمواجهة التفلُّت الإيراني النووي، بما فيها إمكانية فرض حصار كامل بحري وجوي على إيران. وفي أسوأ الحالات اللجوء إلى استعمال القوة العسكرية من أجل تدمير المنشآت النووية الإيرانية.

 

في حال اعتماد هذا السيناريو أو في ظل السيناريو الثاني أيضاً يمكن لإسرائيل ان تبادر إلى شن غارات مركزة على المنشآت الإيرانية الأساسية، وبالتالي توقع حصول ردّ إيراني عسكري مباشر بواسطة الصواريخ الباليستية ضد المدن الإسرائيلية، بالإضافة إلى فتح حرب مباشرة من قبل حزب الله وحماس والحرس الثوري عبر الحدود مع لبنان وغزة وسوريا.

 

في ظل توسع الحرب لا بدّ من توقع دخول الولايات المتحدة كشريك أساسي لإسرائيل في شن عمليات قصف مركزة على كل المواقع النووية الإيرانية وعلى بعض المنشآت العسكرية والحيوية داخل إيران.

 

لكن يبدو من الضروري ان نشير في معرض هذه السيناريوهات بأن الحكومة الإسرائيلية الراهنة برئاسة نفتالي بينت قد أعلنت قبولها بعودة إيران إلى الاتفاق النووي، وتطبيق كامل الضوابط التي نص عليها، وهي على عكس حكومة نتنياهو التي كانت تُهدّد بضرب المنشآت الإيرانية.

 

يحمل الفشل في المفاوضات لوضع «اتفاق معدّل» يرضى به الطرفان الأميركي والإيراني  حصول مخاطر على أمن واستقرار المنطقة برمتها وذلك في ظل خروج الولايات المتحدة من أفغانستان والخروج من سوريا والعراق، مع تراجع مفاعيل اتفاقياتها الأمنية مع المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي. من الواضح جداً ان توجهات إدارة بايدن باتت تركز على الأمن في منطقة آسيا في ظل تنامي قدرات الصين وطموحاتها لممارسة دورها الاقتصادي والعسكري كقوة عظمى، وخصوصاً لفرض هيمنتها الكاملة على بحر الصين الجنوبي والممرات المائية الاستراتيجية في الشرق الأقصى.

 

يبدو ان المنطقة قد بدأت تتهيأ في السنوات الأخيرة لمواجهة حصول تداعيات أمنية كبيرة بسبب تراجع الاهتمام الأميركي بتحقيق الاستقرار الإقليمي من خلال تنفيذها للضمانات التي اعطتها لحلفائها. ومن المؤشرات الأساسية التي شهدتها المنطقة للتبدلات المتوقعة في موازين القوى، اتفاقيات ابراهام بين إسرائيل والدول الخليجية، وقمة بغداد، والمحادثات السعودية – الإيرانية، والاتفاقات التركية – القطرية، والمصالحة التي جرت بين قطر ودول مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى الاستراتيجية الجديدة التي يعتمدها التحالف في مواجهة الحوثيين في اليمن، والتي تسير على محورين متوازيين: الدعوة للحل السلمي، وتصعيد المواجهة العسكرية لإفهام الحوثي وخلفه إيران بأنه لا حل من خلال القوة العسكرية.

 

في النهاية يبدو بوضوح بأن السيناريوهين الثاني والثالث يحملان بذور الشؤم للمنطقة، ويمكن دون شك، ان يتسببا بخلل كبير في موازين القوى، مع احتمال انفجار صراعات جديدة قد تؤدي إلى حرب إقليمية واسعة في حال قيام إسرائيل بشن غارات جوية ضد إيران.

 

سيؤدي مثل هذا التطور إلى اندلاع حرب بين إسرائيل وحزب الله وسيدفع لبنان اثماناً غالية جداً نتيجة حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.

 

يبقى الأمل الوحيد في نجاح مفاوضات فيينا والتوصل إلى «اتفاق معدّل» يحافظ على موازين القوى في المنطقة ويحول بالتالي دون نشوب حرب جديدة.