IMLebanon

لماذا وكيف ينفجر المجتمع مرة أخرى؟

ينفجر المجتمع عندما تنفك الروابط بين الناس؛ عندما تضعف الدولة (لا مجرد السلطة) ولا تعود صالحة للعيش سوية. دولة الطاغية تقمع بوسائل العنف المادية. دولة الأصولية الدينية تقمع بواسطة السلطة الدينية الإلهية مضافة إلى وسائل العنف المادية. هذه وتلك دولة ضعيفة بنظام يظن أنه أقوى من الناس. لا تكون الدولة قوية إلا عندما تتمتع بشرعية الرضى من أهلها؛ أي عندما ينضبط الناس بالقوانين وبالدستور عن اقتناع بأن هذا ما يحتاجونه وما يلبي رغباتهم لا بما يفرض عليهم.

الدولة اللبنانية لا تملك من وسائل العنف المادية ولا الأصولية الدينية، برغم طائفية النظام. الدولة المصرية، ومعظم دول المغرب العربي الكبير تستخدم وسائل العنف المادية؛ دول المشرق العربي الجمهورية تستخدم العنف المادي وأجهزة المخابرات؛ دول المشرق الملكية والأميرية تستخدم الأصولية الوهابية والأجهزة الأمنية. جميعها دول ضعيفة تعجز عن الدفاع عن أرضها. ساهم بعضها في إعادة اختراع الإرهاب الديني منذ عشرات السنين، لكنها جميعها الآن مضطرة للعودة إلى التبعية والطلب من القوى الكبرى الدفاع عنها باسم الحلف العالمي لمحاربة الإرهاب. هناك تناقضات اجتماعية أدت إلى مشاكل لا تحل بين الشعوب ومطالبها والأنظمة واستبدادها. أدت الحرب على الإرهاب إلى تجاهل المشاكل الاجتماعية، أي التناقضات بين الأنظمة ومجتمعاتها؛ وبين الطبقات العليا المتحلقة حول السلطة وبين الفقراء الذين لا حول لهم.

وبالطبع تؤيّد الطبقات العليا في كل بلد السلطة والحرب على الإرهاب. تريدها حرباً على الناس لقمع مطالبهم. والأصولية الدينية الجهادية «الإرهابية» تتجاهل مصالح الناس والمجتمع وتشن حرباً عليهم. جميعهم متفقون ضد الناس.

إلغاء السياسة هو السمة الغالبة أيضاً، لدى جميع هذه الأنظمة. السياسة حوار ونقاش وإقناع وتعبير عن الإرادة، بما في ذلك إرادة المجتمع. وذلك ما يُراد تجاهله. يُراد لنا مجتمعات منزوعة السياسة بالعنف أو بالدين أو بكليهما، وقد استخدمت جميع هذه الوسائل عن طريق الاستبداد في العقود الماضية؛ فأدى نزع السياسة وإلغاؤها إلى الانفجار. لا بد من أن ينفجر مجتمع منزوع السياسة، فاقد الرضى، في ظل أنظمة فاقدة الشرعية. مجتمعات أحيطت بأسوار القمع والظلم والفساد، وحُرمت من أبسط مطالبها وهو العيش أولاً، بكرامة ثانية، وحرية ثالثاً؛ فكان لا بد من أن تنفجر فكانت ثورة 2011.

وكان طبيعياً أن تأتي بعد الثورة الدساتير والقوانين الجديدة لوضع قيود جديدة، أو من نوع آخر؛ وكان مفيداً الاستفادة من إجرام الأصوليات الإرهابية ومن الحرب ضدها لوضع حد لمطالب الشعوب العربية. ألا يسترعي الانتباه انضمام جميع الأنظمة والطبقات الرفيعة في البلدان العربية، والبلدان المجاورة والمسماة «إقليمية» للحرب على الإرهاب؟ ألا يسترعي الانتباه اتفاق أعداء الأمس على هذا الأمر؟

يقول بعض أركان النظام، في مصر، من المدنيين (وكانوا أركاناً لأنظمة سابقة) إن الرئيس الجديد لا يملك الخبرة الكافية؛ هو حديث التجربة نشأ في مؤسسة لم تنشأ على المواجهة. وذلك لا ينم عن احترام كبير لقائد ما زال يعتبر في سن المراهقة السياسية. ويضيف أن مصر خرجت من مرحلة الإحباط إلى مرحلة الأمل والعمل. والأمر يحتاج إلى شرح مفقود. هناك صندوق «تحيا مصر» وهناك الاكتتاب في سندات مشروع القناة. ولا ندري مدى القسر الذي يستخدم في ذلك. منح الرأسمالية العليا، وهي رأسمالية مالية حيث المال يجني المال، فوائد 12 في المئة يفيد بالترغيب؛ لكن وجود آلاف المساجين السياسيين يشير إلى أن القسر والقمع يستخدمان حتى في تعبئة الرساميل. وهذه تحتاج إلى ضمانات للملكية الخاصة كما تحتاج الجماهير إلى الحرية؛ أو أن الأولى تتناقض مع الثانية؟ بمعنى أن الترغيب الرأسمالي يحتاج إلى قمع الحريات.

يقول واحد آخر من أركان النظام المدنيين، وكان أيضاً من أركان الأنظمة السابقة، إن المشرق العربي معرّض لإعادة رسم خرائط الدول (سايكس ـ بيكو جديد) وإن الصراع السني ـ الشيعي غير مقبول استمراره. ذلك ما تتداوله أروقة صانعي القرار في الدول الكبرى. وهو يعرف ذلك بعد جولة في هذه الأروقة. تفكر وأنت تسمع ذلك أن «داعش» تقوم ببعض هذه المهمة، أو تمهّد لها. يُعاد تشكيل المنطقة عن طريق الإرهاب والحرب عليه. وآخر ما يتم التفكير به هو إرادة الشعوب. لا بد من أن هذه الشعوب ارتكبت خطأً كبيراً عندما وُلد أبناؤها على هذا المذهب أو ذاك. يقرّر مصير الشعوب على أساس ولادتها لا على أساس مطالبها وإراداتها.

يصم الآذان ضجيج الشباب حول الإحباط. هم أكثرية المجتمع وفاقدو الأمل بالمستقبل. يريدون أن يكونوا غير آبائهم، وغير الجيل الذي سبقهم والذي استكان للأنظمة، ولا يرون مخرجاً. لا هم يمارسون السياسة، أو هم ممنوعون منها؛ والأمر سيّان. يذهبون بدور الشباب إلى حده الأقصى وينتهون إلى إلغاز الدور وإبهامه. تساهم في ذلك المنظمات غير الحكومية (NGO) ومعظمها مموّلة من الخارج، وعددها يفوق الأربعين ألفاً في مصر وحدها. هوية الجيل تتقدم على هوية الطبقة الاجتماعية؛ وفي ذلك نزع للسياسة أيضاً. الناس في معظمهم فقراء ولا يملكون شيئاً. هويتهم الطبقية هي التي يجب أن تكون أساس جميع المطالب. لكن ذلك ما يتم تغييبه.

أدى الاستبداد والحصار الذي ضرب لعقود حول المجتمع إلى ثورة 2011، أما الانتقال من الإحباط إلى «العمل والأمل» فإنه سيؤدي إلى انفجارات اجتماعية أكبر وأكثر اتساعاً إن لم يحرز إنجازات كبرى. والأمر مرهون «بولادة جديدة» تكون على قدر إرادة الناس لا برسم خرائط جديدة للمنطقة تتجاهل هذه الإرادة.