IMLebanon

لبنان في الفاتيكان: باعة الهواء والأوهام

 

vatican

 

كتب جان عزيز في صحيفة “الأخبار”:

تبتسم الأوساط الفاتيكانية مطولا حين تسأل عما يحكى منذ فترة عن مبادرة لروما حيال الأوضاع في بيروت. تحتاج إلى مزيد من تفصيل السؤال: ماذا عن الاهتمام الفاتيكاني بلبنان، ماذا عن قلق روما حيال الوجود المسيحي في بلاد الأرز والشرق عموما، ماذا عن الزيارات المتبادلة والمتكررة، الامَ أفضت وكيف ستتابع وتستكمل وتستثمر، وخصوصا في ظل أزمة الرئاسة اللبنانية وما يظل يتردد عن التزام معنوي ومادي لروما في هذا المجال؟

وتحتاج إلى تكرار السؤال والالحاح في طلب الجواب، حتى تخرج الأوساط الفاتيكانية عن صمتها وبسمتها، لتجيب بكلمات قليلة صادمة: لا صحة لكل ذلك!

بين الذهول حيال تلك الإجابة الخاصرة وإدراك مأساوية الوضع، تتدرج أوساط روما في شرح الأسباب الحساسة والخلفيات المحظورة على البوح والكلام.

تقول: الإدارة الفاتيكانية أولا جسم كبير جدا. متشعب ومتشابك. غير أن الدوائر المعنية رسميا وفعليا ببلدكم معروفة ومحددة. هناك طبعا مجمع الكنائس الشرقية الذي يرأسه اليوم الكاردينال ساندري. هذه الجهة هي المسؤولة عن كل ما هو علاقات كنسية تنظيمية وعملانية بين روما وكنائسكم، لكنّ تاريخ هذا المجمع شهد تعاطيا تخطى الكنسي إلى السياسي، كما في أيام الكاردينال الكبير سيلفستريني، الذي فرضت شخصيته وحضوره دورا للمجمع الشرقي يتعدى الإطار التنظيمي البحت. بعده قدر لكنائسكم أن يكون لها رجل من عندكم على رأس هذا المجمع. فكان الكاردينال الراحل داود. كان رجلا تقيا ورعا، لكنّ انتماءه إلى ارضكم فرض حكما اهتمامات للمجمع تلامس قضايا شعوبكم واوطانكم، فضلا عن تزامن رئاسة داود للمجمع الشرقي مع وجود طبيعي لعدد وافر من أبناء كنائسكم في دوائره المختلفة…

بعد سيلفستريني وداود، صار المجمع في عهدة ساندري. تبتسم الأوساط الفاتيكانية عند ذكر هذا الاسم. تقول انه لا لزوم للحديث كثيرا عنه، لكن يكفي القول ان الفضل الوحيد الذي ينسب إليه أنه على الأرجح كان الملهم الأول للبابا فرنسيس عندما كتب قداسته رسالته الشهيرة عن أمراض رجال الكنيسة الكثيرة! من الالزهايمر الروحي إلى ترك الروحيات والاهتمام بالدنيويات… لا لزوم للشرح أكثر. الباقي تعرفونه في لبنان كما نعرفه. وكما لم يجرؤ أحد على مقاربته أو معالجته… تتذكر الأوساط الفاتيكانية ههنا واقعة ذاعت عن يوحنا بولس الثاني. ذات يوم قام بجولة على دوائر الكوريا الرومانية للتعرف إليها بالأشخاص والمهمات. وصل إلى مكتب مهيب ومنهمك. على بابه عناوين تفخيمية كثيرة. فاستوضح من شاغله عما هي وظيفته. أجاب أنه المسؤول عن تشريف أبناء الكنيسة المستحقين. وذلك عبر منحهم الاوسمة البابوية من الدرجات المختلفة. سأله البابا القديس عن آلية منح تلك الأوسمة وسبلها. استرسل الموظف الفاتيكاني في الشرح بصراحة. حتى ابتسم البابا البولوني وقال له: Vendi Fumo؟ أي تبيع الهواء اذن؟ ومنذ تلك الواقعة صارت تلك الدائرة الفاتيكانية معروفة داخل أسوار روما، كما في الصحافة الايطالية، بهذا الاسم لا غير… تقفل الأوساط الفاتيكانية الهلالين بخلاصة: المجمع الشرقي هذه الأيام بائع هواء… وغالبا ما يكون هواءً غير نظيف!

هذا عن القسم الكنسي من الدوائر المعنية بلبنان في روما. طبعا هناك في المقابل الشق السياسي. وهو الذي تتنكّبه أمانة سر الدولة. هناك خلف أسوار مار بطرس تقع مكاتبها. وهناك ثمة رجل واحد يفترض أن يكون مهتما بأوضاعكم السياسية. إنه وزير خارجية الفاتيكان الأسقف غالاغر. المشكلة هنا مختلفة. فالرجل الآتي إلى مركزه حديثاً لم يكن يوماً على تماس مع قضاياكم. مع ما يعنيه ذلك من بعد عنكم وعن هواجسكم ومعاناتكم. فهو ليس كازارولي ولا اتشيغاراي ولا توران ولا سواهم من «لبنانيي الفاتيكان». هو لا يعرفكم ولا يعرف شيئا عنكم. لا يزال مهتما بكيفية مواجهة موسكو أكثر مما يسمع عن رحيلكم الجماعي من ارضكم. هو فاتيكاني الوظيفة، وبريطاني الهوية، لكنه على الأرجح اميركي الذهنية والسياسة…

يستفزك هذا العرض السوداوي. فتسأل بشبه انتفاضة طفولية رومانسية: وماذا عن البابا؟ ماذا عن هذا الراهب اليسوعي الذي بدا للعالم مشروع ثورة؟ ألا يعرف شيئا عن مسيحيي الشرق ولبنان؟ هنا ترتسم الجدية على وجوه الأوساط الفاتيكانية وهي تجيب شارحة: طبعا يعرف ويتعرف أكثر، لكنْ، ثمة جانبان آخران لهذه الإشكالية هنا عليكم فهمهما. أولا أن هذا البابا ذو شخصية خاصة به وصاحب فلسفة حياة وذهنية مقاربات وأولويات مختلفة تماما عن سواه. فهو ليس يوحنا بولس الثاني، أو فويتيلا البولوني، الكاهن المناضل، بابا الصراع مع الماركسية. وهو ليس كذلك بنديكتوس السادس عشر، أو راتزنجر الالماني، اللاهوتي الصلب، بابا الصراع مع الإسلام السياسي الأصولي. فرنسيس ليس هذا ولا ذاك. أولوياته في امكنة اخرى. في إصلاح الكنيسة ومحاربة امراضها. في الشق الاجتماعي والعقيدة الاجتماعية للكنيسة. في مواجهة الفقر والبؤس واللاعدالة المجتمعية… تدركون لا شك أن ذلك متجذر في أصوله الأرجنتينية خصوصا والاميركية اللاتينية عموما… ولذلك فهو منكفئ نسبيا عن القضايا السياسية في بعدها الدولتي المباشر. وهذا ما يجعله على مسافة معينة من قضيتكم.

ثم هناك جانب ثان مرتبط بما سبق، ومكمل لفهم وضعكم. ألا وهو أن البابا فرنسيس رجل دراية وحكمة. فهو لا شك مدرك أن قسماً كبيراً من مشكلتكم هنا يقع خارج مار بطرس. على بعد أمتار قليلة على جادة كونسيلياسيوني (في إشارة إلى مقر مجمع الكنائس الشرقية)، لكنّ البابا حريص على الأرجح على عدم الدخول الآن بالذات في مواجهة مع الكاردينال الإيطالي هناك، حتى لا يحيي حساسيات تاريخية، وحتى لا ينبش إشكاليات كنسية عمرها في التاريخ الكنسي ستة قرون، منذ أيام الكونكيستادور واكتشاف أميركا. وعمرها في اللاهوت العملي نصف قرن على الأقل منذ مجمع ميديلين وآباء لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية… لكل ذلك يبدو البابا فرنسيس أكثر بعدا عن قضاياكم وازماتكم ومعاناتكم… حتى اليوم.

لكن ثمة واقعة تثبت عكس ذلك. بيانه المشترك مع بطريرك موسكو بعد لقائهما الأخير. سبع فقرات، أي نحو ثلث البيان، عن مسيحيي الشرق. كيف تفسرون ذلك؟ تبتسم الأوساط مجيبة ببعض اسى مكتوم: إنها صياغة روسية على نحو شبه كامل. إنه إنجاز رجل متميز في موسكو. هو الأسقف هيلاريون وزير خارجية بطريركية موسكو. لو ترك الأمر للبعض في روما لما ذكرناكم في البيان… أو لما حصل اللقاء التاريخي أصلا.

لكن، في مقابل هذا المشهد، أين الأصوات اللبنانية في الفاتيكان؟ بعد نفس عميق تفرج الأوساط نفسها عما تعدّه شقا آخر من المأساة: إنها مسؤولية كنائسكم هنا. كيف كان يتكون الاهتمام والالتزام الفاتيكانيان بقضاياكم؟ عبر سماع اصواتكم المتعددة. وعبر إسماع روما مطالبكم. حتى صراخكم. اليوم لم يعد لديكم أحد هنا. مثلا يحق لكنيستكم المارونيّة المشاركة في عدد كبير من اللجان الحبرية. نحو سبع لجان.

لا موفد فاتيكانياً

تقليدياً كان يشارك فيها عدد كبير من اساقفتكم. فتكون اجتماعات تلك اللجان مناسبة لتبادل الهموم والهواجس. اليوم اختفت تلك المشاركات. اختزلها البطريرك الراعي بشخصه وحده. صار يمثل كنيسته في اللجان كافة تقريباً. باستثناء لجنة واحدة ربما تركها لأحد الأساقفة. فصارت رحلاته إلى روما مكوكية، لكنّ تنوّع الأصوات هنا انتهى. الأمر نفسه وقع في الدوائر الفاتيكانية الأخرى. في المجمع الشرقي خرج كل اللبنانيين مع وصول ساندري. تبتسم الأوساط نفسها وهي تعقّب: آخر «لبنانيي» المجمع كان الأب ملفستيتي، الذي خدم المجمع وخدمكم بصدق ودأب مع سيلفستريني وداود، لكنه رقّي أخيرا إلى رتبة أسقف وتسلم رعاية إحدى الابرشيات الكبرى في إيطاليا. ربحته لكن خسرتموه انتم في المجمع. تقريبا لم يعد هناك من صوت لبناني هنا. وكيل دعاوى القديسين ألغي. وهو كان فاعلا في إيصال قديسيكم كما اصواتكم. لا يزال هناك على الأرجح قاضيان لبنانيان لا غير في محكمة الروتا الفاتيكانية. ويحكى أيضا أنهما محاصران…

لكن كيف تفسرون إزاء هذه الصورة القاتمة أن موفداً فاتيكانياً خاصاً زار لبنان قبل مدة، هو الكاردينال مامبرتي، وعقد سلسلة لقاءات وعاد ليضع تقريرا مفصلا عن رحلته قيل عنه الكثير؟ لا تكتم الأوساط الفاتيكانية نفسها من الضحك عاليا عند طرح هذا السؤال: كل هذا من نتاج تخيلاتكم في بيروت ومن نسج ميتومانيا البعض عندكم من رجال مال ونفوذ وأمراض عظمة. ترد الأوساط بحزم قبل أن تشرح: أولا الكاردينال مامبرتي لا علاقة له إطلاقا بالشأن اللبناني ولا المشرقي. إنه قاض في إحدى المحاكم هنا. ثانيا للرجل بعض أصدقاء لبنانيين. حين عين كاردينالا أحب هؤلاء تكريمه في بيروت. نظموا له دعوة خاصة وعقد لقاءات على هامشها، طبعا بصفته كاردينالا استأذن مامبرتي رؤساءه لإجراء الزيارة. فجاءت الموافقة مشفوعة بتوجيه أحد موظفي أمانة سر الدولة هنا بمرافقته. هذه هي كل القصة والمبادرة والزيارة الاستطلاعية والخطوة الهامة! مسألة زيارة خاصة لبعض أصدقاء انتهت بكلام شفهي عند عودة مامبرتي. وقد يكون الموظف الذي رافقه كتب اسطرا إضافية انتهت على قرص صلب جداً في مكان ما من هذه المكاتب العنكبوتية!

إن قبلتم أو رفضتم. إن احببتم أو كرهتم. هذا هو وضعكم هنا. عليكم أن تدركوه على حقيقته اولا، أن اردتم فعلا العمل على تعديله وتحسينه وتحصينه ثانيا… إلا إذا اردتم أن تفعلوا مثل بعض سياسييكم الذين يتوسطون لنيل مصافحة قداسته يوم الأربعاء من كل اسبوع، في ساحة مار بطرس وسط آلاف المؤمنين، ثم يذهبون إلى بيروت بصورة «مقصوصة» وخبر أنهم عقدوا مع الحبر الأعظم لقاء عمل استعرضوا خلاله القضايا المشتركة وكانت أجواؤه ممتازة!

لا جدوى إذن من روما؟! ترد الأوساط بسرعة على التساؤل اليائس: بلى وبالتأكيد. أولا انتم شعب أعطى قديسين. لا يمكنكم أن تيأسوا. كل ما عليكم أمران مترابطان متلازمان: الرجاء في صلاتكم الدائمة. والعقل في عملكم الدؤوب. هذا كل ما بقي لكم. الباقي أتركه لباعة الهواء والأوهام والأوطان…