IMLebanon

مناجاة بين الحريري ووالده الشهيد في لاهاي (بقلم رولا حداد)

والدي الرئيس الشهيد،

ما أصعب الجلوس هنا في قاعة المحكمة الدولية في لاهاي، وأنا أستعيد مع المرافعات كل التفاصيل البشعة لتلك الجريمة المروعة التي عصفت بي وبالعائلة وبالوطن في ذلك الرابع عشر من شباط 2005. أعيش لحظة الانفجار مراراً وتكراراً، تماماً كما أستعيد مرارة خسارتك التي أعيشها في كل يوم وكل لحظة منذ ذلك التاريخ المشؤوم.

أشعر باقتراب ساعة الحقيقة التي أعرفها وتعرفها ونعرفها جميعاً، كما أشعر بالوجع الشديد والمزدوج: الوجع لعدم قدرتي على إحقاق العدالة بعد إعلان الحقيقة، والوجع لاضطراري أن أجلس مع قتلتك في حكومة واحدة ومجلس نيابي واحد، لا وبل في وطن واحد.

لكم اشبه وضعي اليوم بوضع صديقي وصديقك وليد جنبلاط بعيد اغتيال والده الزعيم كمال جنبلاط. كان عليه أن يذهب إلى سوريا ويقابل قاتلي والده ويصافحهم لأنه كان عاجزاً مثلما أنا عاجز اليوم. لا ألومه، فأنا اضطررت إلى الذهاب إلى سوريا وقابلت بشار الأسد متخطياً كل الآلام ولكن من دون أن أسامح ولن أفعل، تماماً كما اضطررت وسأضطر أن أجلس مع مسؤولي “حزب الله” من دون أن أسامحهم، ولكن تلبية لما علمتنا إياه أن “ما حدا أكبر من بلدو”.

لا يمكن أن تتصوّر يا أبي كمية المشاعر التي تختلج في صدري ونفسي. هي مشاعر تتراوح بين الغضب والحقد والرغبة الجامحة بالانتقام، وبين محاولات تهدئة النفس والتروي رحمة بالبلد الذي أحببتَه أنت حتى الاستشهاد. لكن الأسوأ يا أبي هو الشعور بالعجز، العجز عن معاقبة القتلة والمرتكبين والمخططين والمحرضين والآمرين، ولو بالسجن، ولكن من دون جدوى!

والأسوأ يا والدي أن الحكمة تدفعني إلى الفصل ما بين مشاعري وخطابي، ما بين حقدي ورغبتي في الانتقام وبين حرصي على البلد والشعب اللذين تركتهما بعهدة الله سبحانه وتعالى وأمانة بين أيدينا، إلى درجة لم أعد أعرف هل هذا تصرّف الحكماء أم تصرّف الجبناء؟ وهل يمكننا أن نبني لبنان المستقبل من دون أن نحقق العدالة؟ وما الذي يمنع المجرمين عندها من تكرار جريمتهم، وقد يكون أي منا الضحية، بعد سلسلة من رفاقك ورفاقي في “ثورة الأرز” كان آخرهم الصديق الصدوق والمستشار الخلوق الوزير الشهيد محمد شطح؟!

أسأل نفسي آلاف الأسئلة في هذه اللحظات من دون أن أجد ولو جواباً واحداً شافياً، ولذلك أخاطبك، أستلهم روحك لتعطيني القوة والإرادة لأستمرّ، والأهم لآخذ القرار الصحيح. ولعل أخطر سؤال أسأله لنفسي: كيف يمكن لي أن أثق بالقتلة المجرمين مجدداً؟ وما الذي يمنعهم من أن يغتالوني أنا سعد رفيق الحريري؟ هل نفعتك كل الضمانات والتطمينات الدولية والعربية؟ ومن أنا اليوم أمام حجمك وموقعك يوم أقدموا على ارتكاب جريمتهم؟

هل ألوم نفسي أم ألومك أيها الرئيس الشهيد، وأنت من رفضت تأسيس ميليشيا وأصريت على نهج تعليم شباب لبنان، وعلى نهج الإعمار وبناء الوطن؟

أنا سعد رفيق الحريري، أنا ابن مدرستك ولن أخذلك، ولن أدع الرغبة في الانتقام تسيطر عليّ لأن الانتقام هو سلاح الضعفاء، وأعاهدك بأن أسعى أن يكون الرد في بناء لبنان أفضل لجميع أبنائه، يكون خالياً من السلاح والميليشيات والأجهزة الأمنية الخارجة عن الشرعية، الردّ في بناء لبنان الحياة والازدهار والانتماء إلى المجتمعين العربي والدولي لأنه أفضل رد على الساعين إلى إلحاق لبنان بمشاريع الموت والمحور الظلامي.

من لاهاي إلى روحك الطاهرة ألف تحية، وسأضع وردة بيضاء على ضريحك لحظة صدور الحكم، والمجرمون سيذهبون إلى مذبلة التاريخ، وإن غابت العدالة على الأرض فالعدالة الإلهية لن تغيب، ولبنان وحده باقٍ باقٍ باقٍ.

ملاحظة: هذه المناجاة بين الرئيس سعد الحريري ووالده الرئيس الشهيد رفيق الحريري مستوحاة مما يمكن أن يكون الرئيس سعد الحريري قد شعر به في اللحظات التي التُطقت له الصورة المرفقة بهذه المقالة من داخل المحكمة يوم الثلثاء 11 أيلول 2018.