IMLebanon

الكُوع… لَو حَكى

بقلم الدكتور جورج شبلي:

… والمقصودُ بالكُوعِ، كوعِ الكحالة، هو ذلك الموضِعُ الذي عانقَ أبطالاً لطالما واجهوا البرابرةَ من كلِّ نَوع، وسحقوا غُزاةً ممسوسينَ أَقَلُّ ما يوصَفون بالهَمَج، يحملونَ مؤامرةً مشبوهةً لهدمِ الوطن، وتحويلِهِ مجتمعَ حربٍ ينهجُ ثقافةَ الموت. لكنّ الكوعَ بقيَ على حقيقتِهِ، رمزاً للصّمودِ، ولعزّةِ الكرامة، وإِنْ حَفَرَ دَمُ مَنْ سقطوا من نُسورِهِ، في وجهِهِ، أَثلاماً من الحزن.

يمكنُ لكَ أن ترى الكوعَ موجوعاً، غاضباً، آسِفاً، منتفِضاً، ثائراً، لكنّكَ تَعجزُ عن رؤيتِهِ يبكي. ويمكنُ أن تراهُ خافِضاً جَفنَيهِ وهو يرفعُ لشهدائِهِ شِعارَ ” لن ننساكم أبداً “، وكأنّ وجودَه مُختَزَلٌ بهذا الشِّعار، لكنّكَ لن تراهُ، أبداً، خافِضاً جبينَه، أو راكِعاً، فالأصالةُ في إِبائِهِ يَبدأُ خُطابُها بأنَّ أَحداً لا يستطيعُ امتطاءَ ظَهرِهِ إِلّا إذا كان هو مُنحَنِياً، ومستحيلٌ أن يلامسَهُ التّراب. يمكنُ أن تراهُ مُلَبَّداً بدُخانِ الخَوفِ على الشّباب، يَضرعُ لكي يبقَوا سالمين، لكنّك لن تراه، أبداً، إلّا خَطَّ تَماسٍ يفصلُ بين الإنكفاءِ والبطولة، بين الجبانةٍ وبين الشجاعةِ في مواجهةِ الخَطَر، من دونِ أَيِّ وَجَل. ولآَنّ الكوعَ خَطَّ الكثيرَ من مشاويرِ الإستبسالِ في قاموسِ الوطن، تعرَّضَ لحملاتِ حقدٍ مسعورةٍ أهدافُها غيرُ خافيةٍ على أَحَد.

كوعُ الكحّالة له بيئةٌ حاضنةٌ مُخلِصة، تؤمنُ بهِ، وبالقضيّةِ التي يرمزُ إليها، وتُؤمِّنُ له الخلفيّةَ الدّاعمة، وهذه ليسَت حالَ أبطالِ الكحّالة، وحدَهم، وهم ” قَدّ الحَملِة، وأكتَر “، إنّما تنسحبُ على اللبنانيّينَ السيادِيّينَ برمَّتِهم، ومن دونِ أيِّ تَرَدُّد، ما يوفِّرُ للكوعِ درعاً واقيةً، وتحصيناً غيرَ قابلٍ للزعزعة، ويمَتِّنُ موقعَهُ في المواجهةِ القادرة. لذلك، لطالما تركَ الكوعُ توقيعَهُ دليلاً تاريخيّاً دامِغاً على الذين سَعَوا الى تَدجينِهِ، وفرضِ هيمنتِهم عليهِ، وما كان فِعلُهم إلّا ضَرباً من الجهالةِ، والحماقةِ، والمغامرةِ العقيمة، ولذلك، فتحَ الكوعُ لهؤلاءِ بابَ جهنّم.

ليسَ غريباً أن نجدَ في خَدِّ كوعِ الكحّالة ملامحَ العَملَقَة، فإنّ بينَهُ وبينَها تَلازُماً، وقد تركَت على صفحةِ جبينِهِ خَطّاً يقول : تَفخَرُ العملقةُ بأنّها مَرَّت من هنا. ومن هنا، لم يَعِشْ كوعُ الكحّالة زمناً رديئاً، فالرحلةُ مع البطولاتِ لم تورِقْ إلّا بأرضِهِ، وبينما غَلَّبَ المتزمِّتونَ المتلاقِحون مع الخيانةِ والعَمالةِ طابعَ الجنايةِ على مِلِفِّ الوطن، عَلَّمَ الكوعُ أنّ الدّفاعَ عن الحقِّ، والكرامةِ، وبقاءِ لبنانَ، هو أَمرٌ مُلزِم، ينبغي أن يُعَزَّزَ بثوابتِ التّضحيةِ، وبَذلِ الذّات، فالكرامةُ، في عِرفِ الكوع، هي وليمةٌ دائمة، والإيمانُ بالوطنِ كياناً نهائيّاً هو وفاءٌ يتناسخُ في الأقوياء، والحياةُ تُختَصَرُ بوقفةِ عِزّ.

يُخطئُ مَنْ يَحسَبُ أنّ الكوعَ صامِت، لأنه مُنهَك، فالذين يدخلون التّاريخ، حقّاً، لا يُثَرثِرون بل ينطقونَ بالحقِّ المسؤولِ الذي يَعلقُ في ذِهنِ الزّمن، ويستحقُّ أن يُحفَظَ في ذاكرةِ النّاس. هكذا كوعُ الكحّالة، يَعبَقُ بروائحِ الولاءِ للبنان، وللحقيقة، وتجري في عروقِهِ جرأةٌ لا يعتريها خِزيٌ أو تَراجُع، وتزدهرُ في وِقفاتِهِ مواسمُ البطولة، وينطقُ حضورُهُ هيبةً تَفري هَمجَ عَصرِ القبائلِ المتسَربِلينَ بالغوغاءِ، والعشائريّةِ، والذين يحلمونَ بعصرِ الغَزَوات، وليسوا سوى لَوثةٍ تُفسِّخُ في نسيجِ الوطنيّةِ، وتَعيثُ إيديولوجيّتُها فساداً يُحوّلُ لبنانَ رقماً في جدولِ القتلِ والإنحطاط.

يا كوعَ الكحّالة، وحدَهمُ الجبابرةُ المُرعِبونَ ليسوا بحاجةٍ لِغَيرِ إسمهِم…