IMLebanon

الديار: غياب زعيم الكنيسة المارونيّة الذي جاهد لاستقلال لبنان بأسلوب سلمي 

 

حياة الراحل غبطة الكاردينال البطريرك مار نصرالله صفير هي مثال للإنسان المسيحي، ذلك انه قضى حياته منذ الشباب وحتى عمر 99 سنة في التخصص باللاهوت المسيحي والانفتاح على الدين الإسلامي والدعوى الى تصالح الشعب اللبناني وعدم الانقسام طائفياً ودعوة المحبة بين كل الدول العربية والجوار وفي العالم كله. منذ مطلع شبابه انتسب الى الرهبنة المارونية ثم اصبح كاهناً في عدة مناطق من لبنان، الى ان تم تعيينه وهو في سن ال 41 سنة النائب العام في بكركي وخدم فيها 63 سنة متواصلة وتم انتخابه بطريركاً لاحقاً حيث بقي بطريركاً لمدة 25 سنة الى حين ان قرر الاستقالة بقرار من ذاته.

حياته في بكركي كانت تبدأ عند الخامسة صباحاً ليمشي من بكركي في الاحراج حتى ذوق مكايل ليمارس رياضة المشي لمسافة هي 7 كلم ثم واثر عودته يقوم بما هو لازم وينتقل الى قاعة الكنيسة ليصلي ويقيم قداس الصباح.

وكان طعامه وحياته تقشفاً بتقشف، وكانت قاعة استقبال بكركي يفتحها البطريرك صفير قبل الظهر وبعد الظهر الى ان يقيم قداسه عند الساعة السادسة، ثم يتعشى عشاءً عادياً ويرتكز على الخضر واللبن، ثم ينصرف الى المطالعة والدراسة الروحية ودراسة الثقافة على مستوى كل أمم العالم. لكن كان همه الأول والأخير المسيحيين في الشرق والموارنة خاصة، وكان همه الكبير وضع لبنان وهجرة الشبان والموارنة والمسيحيين منه حيث قدرت دراسات بكركي ان عدد الموارنة الذين هاجروا خلال 45 سنة من لبنان باتجاه استراليا والولايات المتحدة وكندا وأميركا الجنويبة بلغ أكثر من مليوني ماروني.

البطريرك صفير رجل لم يتغير ولم يبدل، بل بقي على قناعته وعلى الزهد بالحياة والتقشف والتعلق بروحية الدين المسيحي والتعاليم المسيحي. وهو يتكلم 5 لغات إضافة الى اللغة العربية وبطلاقة تامة. يتكلم اللغة الفرنسية والإنكليزية اما اللغة العربية فكانت الأقرب الى قلبه وكان يقرؤها وعظاته كانت أدبية روحية مسيحية وإنسانية.

قناعات غبطة البطريرك الراحل بقيت امام عينيه ولم يتغير، وبقي على خط مستقيم مع قناعاته وعارض الوجود السوري منذ سنة 2000 في لبنان وطالب بانسحاب الجيش السوري. لكن معارضته كانت راقية جداً، وخاطب اللبنانيين وفق قناعاته. وطوال معارضته لم يدع الى تجمع امام بكركي بل على العكس طلب من المتظاهرين الذين جاؤوا ان يعودوا الى منازلهم بعد ان باركهم بتحية رسم الصليب. لم يدع مرة الى التظاهر، وحتى عند اعلان احتمال قيام تظاهرة باتجاه القصر الجمهوري في أيام الرئيس السابق اميل لحود اتخذ موقفاً ضدها واعتبر الامر غير مقبول مع استمراره على عظاته التي لم تحد قط عن ابراز قناعاته بالنسبة للبنان والإنسانية، وزار 35 دولة في الخارج لتفقد الرعايا المارونية في العالم ودول الانتشار.

رحل غبطة البطريرك تاركاً اثراً كبيراً في تاريخ لبنان ومعاناة شعب لبنان، وترك اثراً روحياً راقياً جداً بالتعاطي مع الشعب اللبناني كله، ولم يقتصر الامر على الموارنة بل كانت بكركي الصرح الوطني لكل اللبنانيين. بعد 10 سنوات، قد يتم تطويبه بعد جردة عن حياته الزاهدة وحياة التقشف وحياة الصلاة وحياة التعمق في دراسة اللاهوت المسيحي ودراسة الثقافات على مدى الكون والتاريخ، وهو رمز للبنان كبير وكبير جداً شامخ حتى علو الأرز.

رحل عنا غبطة البطريرك، لكن وجهه وأثره لن يغيبا ابدا عن ضمائر اللبنانيين أجيالاً بعد أجيال، وكل الطائفة المارونية على مدى انطاكيا وسائر المشرق.

وداعاً بالجسد يا غبطة البطريرك الراحل العظيم ودمعة نذرفها على خسارتك بيننا. لكن فرحنا أن روحك مسافرة الى السماء وعينيك ستبقى تصلي للبنان وشعبه.

وداعاً يا سيد بكركي البطريرك صفير وليحم لنا الله البطريرك الراعي الذي هو مثال مستمر في الصرح البطريركي في بكركي وفي النشاط والمواقف الحكيمة والمسؤولة التي يتخذها، وليرحمك الله وارقد في رحمة الله يا غبطة البطريرك العظيم.