IMLebanon

“أسود”… بالأبيض

كتب شربل سلامه في “الجمهورية”:

 

كان أبيضَ مسلسل “أسود” لأنَّه جعل الشاشة مضاءة و مضيئة في مستهل الأمسيات الرمضانية الكريمة الثلاثين. الآن ستختفي مسلسلات وتعود برامج، و ستظهر مسلسلات ربما تكون أجمل لكنها مع الأسف باتت تسمَّى “انتقالية بين رمضانين”.

لا يوجد أي مسلسل يمكن أن يعجب كل الناس، خصوصاً إذا كانت المواضيع تتضمن عقداً روائية يُستنتج منها أن هذا الإبن ليس من هذا الوالد و هذه البنت ليست تلك أمها، او إذا صار عالمُ المُثُل السياسي جاهزاً ليدخل عالم التمثيل الذي بدوره يصبحُ سياسياً، أو عندما يتم الدمج بين السياسة والإجرام، وبين العطف والفلتان الأمني، وعندما يتم الخلط بين تمثيل الأدوار المسرحية البحتة والأدوار في المسلسلات التلفزيونية، او عندما يستوحي أحدٌ من مسلسل كولومبو بضعة جرائم غبية، أو عندما تتجمَّد برَّادات شركات الإنتاج فتصبح بعض المسلسلات من رمضان كريم إلى رمضان أكرم و كأنها إعادات أو نسخ طبق الأصل عمّا سبقها من نواحي الأداء و تسريحات الشعر والملابس المنقولة عن افلام الأدب الروسي وبعض التاريخ العثماني ومحلات الموضة الفاشلة الغريبة، والديكور خصوصاً ذلك المنثور بمغالاة على موائد المسلسلات وكأنها طاولات المأكولات الفندقية وبعض الصالونات المعقَّدة وغرف النوم التي فقدت رونقها لأنها تشقلبت وطارت شبابيكها ونوافذها تجنّباً لتعقيدات التصوير.

فلا عجب إن جاء انتقاد من هنا وآخر من هناك، هذا يعني أن الدراما اللبنانية متعافية بفضل محطات التلفزة وبفعل شركات الإنتاج المتنافسة التي تختار في غالب الأحيان “الجيد” وتقدمه للناس الَّذين كانوا ينتظرون “الجيد جداً” الذي لم يصل أبداً في زمن يريد فيه العديدون أن يهربوا من مرار اليوميات صوب فترات نسيان الهموم السياسية والحياتية. وفي زمن الشعور أن السهرات المنزلية صارت قليلة بسبب التواصل الإجتماعي المتباعد، ها هي المسلسلات تجمع الناس على الأقل أمام الشاشة، لا حولها.

و بالعودة إلى مسلسل “أسود”، إنَّ ما اكتبه اليوم خاص جداً بالممثل “باسم مغنية”. لقد أخذ باسم مغنية دور “أسوَد” بعد دور “رامح” فنسيناه.

ولعب دوراً أسودَ صعباً جداً جداً. دورٌ فيه تعقيدات تُبقي المشاهد في حيرة و قلق متخيّلاً وجه “أسود” الذي ظلَّت أمُّه تحاول إنقاذه من مراهقته الضعيفة حتى ماتت. “أسود” المعذَّب منذ اللحظة الأولى التي يظهر فيها في “أسود” وحتى اللحظة أو اللقطة الأخيرة. “أسود” الذي لم يعرف أن يفرح على طول المسلسل، أو بالأحرى كان محروماً من الفرح. لقد نقل باسم مغنية القلق بصوت معذَّب وثائر في آن واحد.

ها هو صوتك “باسم” بنبراته كلها يطغى على الموسيقى ويجعلنا نتعجب!!!!. “أسود” يَغضَب ويُغضِب، يُحب ويثور ويخطط ويتذاكى و ينتقم، بصوته وعينيه. قليلة نسبياً كانت ومتكرّرة حركات “أسود” في المسلسل. لكن الصوت، صوت “أسود” طغى على كل الحركات. صوت “أسود” جعل وجهه متألّماً. يضعف وينحف، يتلوّن ويصاب بالبهتان، ها هو الصوت “صوت أسود” يجعل كل المسلسل مسموعاً فنصغي إلى كارن (داليدا خليل) الرقيقة ومارغو (ورد الخال) الرائعة، وأسما (فيفيان انطونيوس) المكسورة الخاطر، وطارق (الياس الزايك) الغاضب ومالك (اليكو داوود) المحافظ والتيتا (وفاء طربيه) الوقَّادة وملكة (ميري ابي جرجس) الوفية وجوزف (النقيب جان قسيس) الأصيل، وخالد السيد الحريص ونعمة بدوي الحنون ووالد طارق (جمال حمدان) الرائع جداً جداً ومعه إم طارق (رفقا الزير) والعطوفة (أنطوانيت عقيقي) والصديق (روجيه صقر) وغيرهم.

هؤلاء هم كلهم كانوا أبطال بداية أمسيات اللبنانيين خلال شهر كامل. بالعودة إلى الصوت وتأثيره، فتماماً كما حصل في مسلسل “ثورة الفلاحين”، قد ننسى كل الأصوات القديرة التي مثَّلت في هذا المسلسل لكن لا أحد ينسى لهجة وصوت باسم مغنية. كثيرون هم الممثلون الذين يجيدون لعبة الصوت في التمثيل، لكن باسم ليس بحاجة لهذا النوع من الإجادة. بصوته يبكي ويضحك وبعينيه يتبع صوته. باسم مغنية على الشاشة… انظروا إلى عينيه المنسجمتين تماماً مع صوته لا مع صمته. إنها موهبة مواكبة الكلمة بالنظرة.

مواكبة لا تُخطئ، كمواكبة الساعة للزمن. تمثيل ممزوج بالقدرة الصوتية الهائلة، هذا ما اكتشفته في هذا الممثل الذي تابعته مرتين مرَّة في “ثورة الفلاحين” و مرَّة في “أسود”. مسلسلان لو استمعت اليهما فقط عبر الإذاعة، لكان الإستمتاع بهما هو ذاته.