IMLebanon

الحياة السياسية محكومة بالدستور والقانون وإلا الفوضى!

 

 

 

في دولة القانون لا استنسابية ولا تحكم ولا مزاجية، ولا مفاوضة في تطبيق القانون، بل التزام دقيق بالقاعدة القانونية، في دولة القانون مؤسسات تعمل وفق مبادئ وقواعد عامة تتسم بالاستمرارية والشمول، بصرف النظر عن الأشخاص الذين يتولون قيادة أو إدارة هذه المؤسسات.

 

وما دام مفهوم المصلحة العامة أو الخدمة العامة أو الشأن العام، مغيباً أو منتقصاً، لحساب مصالح سياسية أو فئوية أو مناطقية أو طائفية تشد المواطن وتجتذبه خارج دائرة الدولة، وبالتالي خارج دائرة القانون، فإن مفهوم دولة القانون كأحد أهداف الإصلاح، يفقد معناه ومضمونه، بما ينطوي عليه من خضوع الجميع لأحكامه، والالتزام بجميع قواعده، وبما يعني مساواة المواطنين أمام القانون واحترام مبدأ الشرعية، والالتزام بمبدأ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، وبحيث لا يتحول مفهوم دولة القانون إلى شعار فارغ من اي مضمون، تصبح فيه الديموقراطية، باعتبارها سمة دولة القانون، عنواناً زائفاً وموهوماً.

 

فالإصلاح، مرتبط بمفاهيم وقيم المجتمع الأساسية، ومنها معنى الدولة ودورها، ومفهوم الخدمة العامة والمواطنة والشأن العام وأخلاقيات الوظيفة العامة، والديموقراطية والحرية، والحقوق والواجبات، والمسؤولية والمساءلة والحكم الرشيد، وبالتالي، فهو مسألة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بثقافة المجتمع وبمفهوم سيادة القانون (The Rule of Law).

 

أنشأ المشرّع، لحسن ودعم تطبيق القانون، مؤسسات إدارية رقابية لضمان استقلالية الإدارة وتحصينها والسهر على حسن أدائها، تشكّل بحد ذاتها قواعد ومداميك لدولة القانون وحماية لمبادىء المساواة والمواطنة والديموقراطية والعدالة والتحصّن بالكفاءة والجدارة، ومنها مجلس الخدمة المدنية، والتفتيش المركزي، وديوان المحاسبة. يتكامل دور كل مؤسسة من هذه المؤسسات مع الآخر، الرقابة الإدارية التي يمارسها التفتيش المركزي، والرقابة المالية التي يمارسها ديوان المحاسبة، والرقابة على الشؤون الذاتية للموظفين التي يتولاها مجلس الخدمة المدنية، فتكون النتيجة، شفافية وانضباط و مساواة وعدالة وكفاءة، تصب جميعها في تعزيز الإدارة وقدراتها والثقة بها، بما ينهض بالإدارة العامة ويجعلها الرافعة لعمل الحكومة ولخدمة المواطنين.

 

عزّزت هذه السياسة الإصلاحية التي انتهجها الرئيس فؤاد شهاب، مأسسة الوظيفة العامة،حيث بلغت الادارة العامة أوجها في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، إلى أن دخلت السياسة في مفاصل الادارة ومرافق الدولة ومؤسساتها وشوهت مفهوم  الخدمة العامة والوظيفة العامة.

 

والسلطة بطبيعتها جموح، وميل ربما غريزي، إلى التفلت من القيود والحدود. ومن هنا جاءت تلك الكلمات الخالدة للفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، إنه لا بد لكل إنسان يتمتع بسلطة من أن يميل إلى الإساءة في استعمالها، وهو يظل متجهاً نحو الإساءة إلى أن يجد حدوداً أمامه.

 

وقد تتمثل هذه الحدود بسلطة أقوى، منافسة أو مضادة، وهي تتمثل دائماً، متسلحة بالشرعية، بسلطة القانون، بوصفه يعبر عن إرادة المجتمع بتنظيم نفسه في إطار دولة، قوامها وأساسها قانون أساسي تنتظم بموجبه حياة المجتمع، وتحدد فيه حقوق المواطن وواجباته و قواعد السلوك داخل المجتمع ، فتكون السيادة للقانون، أي للقواعد العامة التي تنظم حياة المجتمع السياسي، وتضبط العلاقات بين الأفراد والجماعات، وبقدر ما تنتظم حياة البشر والمجتمعات السياسية ضمن دائرة القانون، وفي ظل احترامه، بقدر ما تكون الدولة أقرب إلى مفهوم دولة القانون.

 

والتشريع اي القوانين التي يقرها مجلس النواب أي السلطة التشريعية في لبنان، والتي يصدرها رئيس الجمهورية، والتي تأخذ طريقها إلى التنفيذ، بعد نشرها في الجريدة الرسمية، وفقاً للأصول، تستمد قوتها وشرعيتها من أحكام الدستور، بحيث تأتي نصوصه واضحة، سلسة ومحكمة الصياغة ومراعية للأصول، لجهة الشكل، وتنطبق على أحكام الدستور وتراعي أحكامه، ولا تخالفها، من حيث المضمون، وتسعى إلى تحقيق المصلحة العامة، في ما خص الهدف. ويستمد التشريع فعاليته من الالتزام بتطبيقه والتقيد بنصوصه واحترام قواعده ومبادئه.

 

والتشريع او التشريعات التي يقرها مجلس النواب، ما هي الا قواعد عامة، تنظم حياة المجتمع في مختلف نشاطاته وشؤونه الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والقضائية والبيئية، والتي تضمن انتظام حياة المجتمع، أفراداً وجماعات، في إطار قواعد وأحكام عامة، تشكل ضمانة للحريات وحقوق الإنسان وتؤمن المساواة، في الحقوق والواجبات بين المواطنين، وتهدف إلى تحقيق مصالح الدولة العليا، والمصلحة العامة.

 

ولكي تأتي التشريعات محققة لهذه الأغراض، لا بد أن يتميز التشريع بخصائص وصفات رئيسية وفضلى، تجعله مكتسباً صفة الجودة، من جهة أولى، وعنواناً للاستقرار في الحياة العامة، ولا يكون عرضة للنزاعات والخلافات، من جهة ثانية.

 

ومن المعروف، أن للتشريع سمات يتميز بها، وصفات يتصف بها، وخصائص تتجلى بها أحكامه.

 

ومن أهم سمات التشريع أن يكون عاماً، وموضوعياً ومجرداً، وغير شخصي، أي أن يتصف بقاعدة العمومية، وقاعدة الموضوعية، وقاعدة عدم الشخصانية، وأن يخضع في وضعه لأصول وإجراءات تضمن تأمين هذه القواعد، وأن تأتي نصوصه من الوضوح وعدم الغموض بحيث تسهل للقاضي مهمته ولا تكون عرضة للتفسير والتأويل، وتحول دون حصول النزاعات.

 

ولذلك، جاء المشترع نفسه ليضع أصولاً وإجراءات تراعي سمات التشريع وميزاته، وقد جاء الدستور اللبناني، تطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات وتعاونها وتوازنها، ليولى مجلس النواب اختصاص التشريع، باعتباره الممثل للإرادة الشعبية والمعبر عن مصالح الشعب وحاجاته وأمانيه، كما أناط بهذا المجلس وضع قواعد تنظيمه وأصول عمله، فجاء النظام الداخلي لهذا المجلس لينظم أعماله المختلفة.

 

نصت المادة 16 من الدستور على أن تتولى السلطة المشترعة هيئة واحدة هي مجلس النواب.

 

ونصت المادة 17 من الدستور على أن تناط السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء.

 

ونصت المادة 18 من الدستور على أن لمجلس النواب ومجلس الوزراء حق اقتراح القوانين. ولا ينشر قانون مالم يقره مجلس النواب.

 

وهذه النصوص تجسد المبدأ الدستوري الذي يسود الأنظمة السياسية في العالم، وهو مبدأ الفصل بين السلطات وتعاونها وتوازنها الذي تنص عليه مقدمة الدستور اللبناني.

 

يتبين من هذه الأصول والإجراءات في التصويت على مشاريع واقتراحات القوانين التي ترفق دائماً بالأسباب الموجبة، ميزات هذا التشريع وإقرار القوانين في لبنان، وهي ميزات تتصف بالدقة والشفافية والعلنية والوضوح والاجراءات النصية التي تؤمن خروج هذه المشاريع الى التنفيذ بعد خضوعها لدراسات ومناقشات ومداولات  مستفيضة تتعدد مراحلها، انطلاقاً من الدراسات التي تعدها الادارات المعنية مروراً بالموافقة عليها في مجلس الوزراء، ثم في المرحلة الثانية، مناقشتها في اللجان النيابية المختلفة، وفي المرحلة الثالثة والأخيرة إقرارها في مجلس النواب.

 

نخلص إلى القول ان التشريع هو مسؤولية وأمانة، مسؤولية أمام المجتمع والرأي العام وأمام القانون، وأمانة تجاه الشعب الذي أوكل أمره، ووضع ثقته في مجلس النواب، ليكون معبراً عن مصالحه وحقوقه وكرامة عيشه. وقد بات التشريع اختصاصاً قائماً بذاته، لا يمكن ارتجاله ولا اختصاره، بل بات عملية نوعية تتطلب دراسات متعددة ومتنوعة من جهات مختصة، ذات كفاءة وخبرة، لارتباطه بحياة الناس والمواطنين ومصالحهم، وهو يتناول حياة الناس، الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والمالية والثقافية، كما يتطلب خبرة ومعرفة بوضع النصوص وحسن صياغتها لكي تأتي واضحة، بعيدة عن الإبهام ولا تثير التفسيرات والتأويلات المتضاربة التي تؤدي إلى الاجتهادات المتعارضة وإلى الإساءة إلى العدالة.

 

فهل نرتقي في تشريعنا الى هذا المستوى المطلوب من الجودة والمسؤولية لكي نضمن حسن وفعالية تطبيق القانون، بحيث يتحول إلى قاعدة مرجعية للناس والحكم، ومنهج حياة، ودار أمان واطمئنان، فنخرج من حالة الفوضى، وننعم بوجودنا في دولة قانون.

 

ولكن كيف نقنع أنفسنا ونقنع أهل السياسة في لبنان أن الحياة السياسية محكومة بالدستور وبالقانون، وإلا تكون الفوضى؟.